تاريخ بحسيتا الجزء الأول

26-12-2019 3746 مشاهدة

ما ذُكرت بحسيتا أمام حلبي ، إلا و ابتسم ،  أثار هذا الأمر فضولي ،و بما ان جيلنا لم يعرفها ،و الجيل السابق الذي أدركها يتجنب الحديث عنها ، و كلما سألت كبار السن عنها نفوا في البداية و بشدة معرفتهم المباشرة بها ، ثم تدريجيا يتبسطوا و يسترسلون في الحديث عنها ، و يشيرون بحذر أنهم ربما زاروها مرة او مرتين للإطلاع على ما فيها فقط ، ثم و بصوت منخفض - مع تحذيري من نقل ما يحكونه عنها على لسانهم - يروون مغامراتهم فيها .

و بما أنها تعد جزءا من تاريخ بلدنا ، و التاريخ تاريخ ،سواء كان سلبيا او ايجابيا ، و لم أجد في أي مرجع دراسة لتاريخ هذا المكان ، الذي قل من امتنع عن زيارته في ذلك الزمان ، حسبما تبين لي ، و لأهمية المؤشرات الأخلاقية و الاجتماعية التي يكشفها تاريخه ، و التي أترك تقديرها للقراء ،  قمت بجمع المعلومات عنه من شفاه من عاصروه ، و ها أنا أقدمها لكم في مقالتي هذه :

مع بداية القرن العشرين - زمن الحكم العثماني - قرر رئيس بلدية حلب افتتاح دار دعارة مرخصة في حلب ، أسوة بباقي مدن السلطنة العثمانية ،كما ذكر الطباخ في كتابه أعلام النبلاء ، و كان الهدف منها حصر و تنظيم عمل الفتيات في هذا المجال  منعا من تواجدهن في مختلف الأحياء و فرض رقابة صحية عليهن ، و انقسم الناس حينها بين مؤيد لفكرة  حصر الدعارة في أماكن محدودة ، و معارض بشدة للترخيص الرسمي لها ..

و لكن ترخيص الدعارة في أماكن محددة محصورة لم يمنع  انتشار هذه الظاهرة بشكل سري، و المرأة التي كانت تمارس الدعارة بدون رخصة خارج البيوت الرسمية المخصصة لها،  كانت تعاقب بالحبس ، و في حال ضبطت مرة ثانية او ثالثة  تجبرها السلطات المختصة على الإقامة الإجبارية في دور الدعارة المرخصة.

و تقرر إقامة بيوت الدعارة المرخصة في حلب -  التي أطلق عليها اسم المحل العمومي - في شارع بحسيتا ،التابع لحارة القلة ، قرب ساعة باب الفرج الحالية .

و كان أغلب سكان حارة القلة و بحسيتا قبل افتتاح المحل العمومي من العائلات  اليهودية ، و قد حدد مؤرخ حلب كامل الغزي في كتابه نهر الذهب  عدد سكانها اليهود بحوالي أربعة ألاف شخص في العشرينيات ، و اشهرهم آل جدّاع , آل نحمات , آل ساسون , وآل دويك ، الذين انتقل الأغنياء منهم  للإقامة في محلة الجميلية تجنبا للإقامة قرب بيوت الدعارة  . 

أما معنى اسم بحسيتا فقد أورد الغزي عدة آراء حول معنى الاسم ، و رجّح أخيرا ان بحسيتا مركبة من كلمتين : أولاهما بيت و التي  تختصر في السوريانية بحرفي ( با ) فقط مثل أسماء المناطق  السوريانية الأخرى ( بانقوسا و تعني بيت الناقوس ، باريشا و تعني بيت الريس و غيرها ) والثانية حسيوتا ومعناها الغفران أو الطهارة ، و بذلك يكون معناها بيت الطهارة و المغفرة .

 ويقول الغزي : (الظاهر إنه كان فيها زمن الكلدانيين مكان مقدس  ،يقصده الناس للاعتراف بخطاياهم ) 

أما خير الدين الاسدي صاحب موسوعة حلب المقارنة فقد رجح رأياً آخر أورده الغزي فيما أورده من آراء ، و هو الرأي الذي يقول أن الاسم محرف من باح سيتا ، وان شخص اسمه  سيتا باح بسر ما ، و افترض الاسدي ان سيته هذا رجل صالح و لهذا السبب هناك جامع قديم جدا في المنطقة اسمه جامع سيته . 

و هناك رأي يقول ان سيتة هو اسم منطقة من اصل سورياني ، و ان جامع سيته المذكور كانت له باحة أمامه ، و بدمج باحة مع اسم سيته كانت  بحسيتا .

و أنا أرجح رأي الغزي على الآراء الأخرى  فمن الواضح ان اسم سيته هو اسم قديم آرامي سرياني ، و لا يعقل ان يسبق بكلمة عربية هي كلمة باح ( بمعنى أفشى ) أو بكلمة باحة ( بمعنى ساحة ) . 

و شارع بحسيتا هو شارع مستقيم بطول ثلاثمائة متر تقريبا ، على جانبيه كانت توجد الدكاكين التي تبيع غالبا المشروبات الروحية ، و في منتصف الشارع جهة اليمين يوجد مدخل صغير يؤدي الى زقاق المحل العمومي .

و سابقا كان في الزقاق  الذي أقيم فيه  المحل العمومي قبل ترخيصه  ، مضافة للعموم ، و يطلق العامة على بيوت الضيافة اسم المنزول ، و هي من كلمة ( نزل ) الفصحى ، فيقال مثلا : (حللت أهلا و نزلت سهلا )  ، و عادة كان الأثرياء و الباشاوات و الآغوات ينشئون مكانا مخصصا لإقامة الأغراب و ضيافتهم مجانا ، و يسمى في الأرياف ( الاوضة ) .

 و بعدما تحول هذا الزقاق  الى  مكان للدعارة ، صار اسم المنزول لدى الحلبيين مرتبطا ببيوت الدعارة ، بينما يستخدم أبناء بقية المحافظات هذا الاسم للإشارة الى المضافات ، كما يستعمل الحلبيون كلمة كرخانة للدلالة على بيوت الدعارة ، و هي كلمة تركية تعني ( الخان الأسود ) و الخان طبعا هو الفندق .

وكان المحل العمومي الذي تم ترخيصه للدعارة  ، مؤلف من مدخل ضيق  يحمل رقم 142 في لوحة معلقة على جداره ، و لذلك اشتهر هذا الرقم كرمز للمنزول .

و  تنفذ من المدخل الى زقاق ضيق  ، على طرفيه  مجموعة من الدور العربية، لكل دار  ارض ديار ( حوش ) و عدة غرف موزعة حوله ،  لبعضها غرف علوية ( مربع ) ،و في نهاية الزقاق منفذ آخر له باب مغلق لا يفتح إلا في أحوال خاصة .

و قرب المحل العمومي كانت توجد حمام عامة تحمل اسم حمام الهنا ، و قد خصصت أوقات محددة فيها لفتيات الكرخانة  ، و قد هدمت الآن .

 و قرب  المنزول مشفى خصصته الدولة لفحص الفتيات و لمعالجة الأمراض التناسلية كمرض الزهري و السفلس  ،و في الأربعاء من كل أسبوع ، تخرج الفتيات من الباب الخلفي للزقاق المخصص لهذا الأمر ، ليقمن بزيارة الطبابة الشرعية - التي كانت قريبة من المنزول - لإجراء الفحص الدوري ، و في حال تبين إصابة أي منهن بمرض ما ، تعزل و تحجر حتى تتماثل للشفاء  ، في المستوصف القريب من المنزول و توجد فيه غرف تشبه الزنزانات  ، كما تحجر الفتيات فيه طوال فترتهن النسائية الشهرية ، لمنعهن من العمل خلالها  .

و كانت الفتيات تلجأن لكي الرحم منعا من حصول الحمل ، و الى الإجهاض في حال تم حدوثه ، فقد كانت تربية الأطفال ممنوعة داخل المحل العمومي .

و في مدخل المحل العمومي  غرفة صغيرة تتواجد فيها دائما مفرزة من عنصرين او ثلاثة من رجال الشرطة  ،  لمنع دخول الأحداث والأطفال والقتلة من أقرباء النزيلات الذين يريدون غسل عارهم ، وللشرطي في المنزول  أهمية عظمى ، فهو يمنع إدخال الأسلحة والسكاكين والمشروبات ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة .

و يصدف أحيانا أن يعين شرطي متساهل ، فيتقاضى مبلغ  بحدود الربع ليرة سورية - ارتفعت لاحقا الى ليرة واحدة - لغض النظر عن الشبان القاصرين الذين دون السن القانونية و الراغبين في دخول المنزول .

و أمام مدخل المنزول مباشرة يوجد مسرح ضخم لتقديم العروض الفنية ، مؤلف من ثلاث طوابق ، توجد على واجهته الحجرية كتابة قديمة  هي ( قهوة السلام ) ، و قد اشتهر أخر أيام المنزول باسم مسرح غازي .

 و قد كان يطلق على المسارح قديما اسم القهوة ، كقهوة البرتقال الشهيرة بحلب و هي عبارة عن مسرح مغلق ، و كانت الفتيات اللواتي يملكن مواهب فنية يقدمن عروضا فيه .

أما المنزول فتقيم فيه عشرات الفتيات من مختلف الأعمار و الجنسيات، و معظمهن غريبات و من خارج المدينة ، فلا تضع السلطة  فتاة من ذات المدينة في منزول المدينة ، لأنها تتعرض للقتل فورا من قبل أفراد عائلتها .

و السبب الأكبر الذي كان يدفع الفتيات للدعارة ، و من ثم الإقامة الجبرية في المحل العمومي بعد القبض عليهن ، هو الفقر و الجهل و الظروف الاجتماعية و العائلية السيئة ، و أغلب المومسات خاليات من الجمال ، فمن كانت تملك جمالا لا تحتاج الى ممارسة البغاء لتعيش و غالبا ما تتزوج لجمالها .

 و كانت المشروبات الروحية ممنوعة بشكل رسمي تجنبا للمشاكل التي يثيرها السكارى ، و لكن كانت بعض الزجاجات تتسرب للداخل ، كما تقدم المطاعم المحيطة بالمحل العمومي أنواع اللحوم المشوية الى داخل المحل .

و لا يجوز أبدا إخراج الفتيات من المحل العمومي الى منازل المدينة الخاصة ، و يحق للفتاة يوم إجازة أسبوعي هو يوم الاثنين فكانت الفتيات - في فترة بعد الظهر - ترتدين لباسا محتشما و يغطين وجوههن منعا من إثارة التعليقات ، لأنهن معروفات من اغلب شباب المدينة ، و يركبن الحنتور مع رجال مفضلين لديهن لحضور السينما .

و في حال كبرن في السن ينقلن الى منزل قريب يسمى  المنزول العتيق ، حيث يمضين ما تبقى من حياتهن في عوز و فاقة بالغين. 

و كان أغلب رواد المحل العمومي من الشباب العازبين و المراهقين و من العساكر و الوافدين الغرباء عن المدينة.

و كان للعساكر يوم خاص هو الخميس مساءا ، من الساعة السابعة حتى التاسعة مساءا ، و تم تغييره لاحقا الى يوم الجمعة ، و لهم تخفيض خاص في السعر يصل حتى النصف ، و يأتون برفقة عريف و يصطفون بالدور برتل عسكري ، و قد يصل الدور الى عشرات الأمتار ، و تستبدل يومها مفرزة الشرطة التي تحرس مدخل المنزول بعناصر من الشرطة العسكرية. 

و في الأربعينات كانت هناك ثلاث تسعيرات متعارف عليها ، و هي ليرتين ، و ثلاث ليرات ، و خمس ليرات ،  تبعا لعمر الفتاة و مستوى جمالها ، و قد زادت هذه التسعيرة لتصل الى إحدى عشر ليرة في أواخر أيام المحل العمومي .

و يمضي الشاب مع الفتاة  فترة قصيرة لقاء هذا المبلغ لا تزيد عن ربع ساعة ، و في حال رغب بتمديدها لمدة ساعة كان عليه ان يطلب فنجان قهوة و يدفع ثمنا له ليرة كاملة .

و بعد وصول الكهرباء للمنطقة ، وضُع في أرض حوش كل دار آلة كهربائية لإذاعة تسجيلات الاسطوانات ، فيضع الرجل ربع ليرة سورية فيها ، و ينتقي الاسطوانة التي تحمل الأغنية التي يفضلها ، لتدار آليا .

شارك الموضوع مع اصدقائك !!
لمتابعة أحدث منشورات دار الوثائق الرقمية التاريخية على شبكات التواصل الاجتماعي :

مواضيع اخرى ضمن  مدونة المحامي علاء السيد

02-10-2022 3982 مشاهدة
حقيقة قصة السلطان عبد الحميد مع اليهودي قراصوه التي لا أساس لها

عندما بدأت الحملة الممنهجة لتبييض صورة السلطان عبد الحميد عمدت بعض الكتابات العربية للترويج لقصة اليهود الدونمة ومحاولتهم شراء أجزاء من فلسطين ورفض السلطان عبد الحميد لذلك بطريقة بطولية مما دعا هؤلاء لخلعه  المزيد

02-10-2022 3277 مشاهدة
السلطان عبد الحميد والرقابة على الصحف وتقييد الحريات

جاء في الفصل الأول المعنون : الشخصية الحميدية  من كتاب "أوهام الذات المقدسة السلطان عبد الحميد لمؤلفه المحامي علاء السيد وذلك تحت تحت عنوان : رقابة المطبوعات الحيوية  المزيد

13-08-2022 4186 مشاهدة
مصادر ومراجع كتاب "أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" لمؤلفه المحامي علاء السيد

اعتمد كتاب"أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" على حوالى 78 مصدرا ومرجعا و على ما نشر في حوالى 17 جريدة ومجلة من أخبار ومقالات متعلقة بما ورد في الكتاب  المزيد

13-08-2022 3676 مشاهدة
الفهرس الكامل لكتاب "أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" لمؤلفه المحامي علاء السيد

الفهرس  6 , مقدمة  9 , تمهيد  11 , الفصل الأول: الشخصية الحميدية  29 , طفولة سلطان  31 , شروط مدحت  33  المزيد

13-08-2022 3190 مشاهدة
السلطان عبد الحميد وحقيقة رفضه بيع فلسطين لهرتزل زعيم الصهاينة وعرضه حلب بديلا عنها

أفرد كتاب "الذات المقدسة ، السلطان عبد الحميد الثاني" فصلاً كاملاً بعنوان : "السلطان عبد الحميد وقضية فلسطين" في 56 صفحة فيها 116 اشارة توثيقية مرجعية  المزيد

13-08-2022 3920 مشاهدة
أراء المؤرخين بشخصية السلطان عبد الحميد الثاني .المحامي علاء السيد

لإيفاء دراسة شخصية عبد الحميد حقها، يجب أن نعي تماماً أن هذه الشخصية تطورت وتعقدت خلال ما يزيد عن ثلاثة وثلاثين عاماً من الحكم،  المزيد

13-08-2022 2257 مشاهدة
تعاون السلطان عبد الحميد مع اليهود لاستيطان مدينة القدس. المحامي علاء السيد

إن الاستيطان اليهودي في فلسطين زمن الدولة العثمانية حتى نهاية عهد السلطان عبد الحميد وقبل عهد " الاتحاد والترقي" بُني على طريقتين  المزيد

02-08-2022 2855 مشاهدة
مقالة نقد كتاب أوهام الذات المقدسة بعنوان : السلطان عبدالحميد الثاني، بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي

مقالة نقد كتاب أوهام الذات المقدسة بعنوان : السلطان عبدالحميد الثاني، بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي. والرد على المقال .  المزيد

أكثر الكتب مشاهدة

مكتبة الفيديو