لم يثر رجل الجدل كما أثاره جرجي زيدان، فمنهم من اعتبره باحثاً وأديباً وصحفياً موسوعيا ومجدداً في إسلوب الطرح التاريخي، ومنهم من اعتبره مخرباً مزوراً للتاريخ عامة وللتاريخ الإسلامي خاصة، بعدما تم اتهامه بالماسونية والطائفية.
ورغم مضي ما يزيد على المائة عام على وفاته ما زال هذا الجدل قائماً حتى الآن.
سيرة الحياة القصيرة لهذا الرجل ملفتة للنظر، فقد ولد جرجي زيدان منتصف القرن التاسع عشر ببيروت عام ١٨٦١م، والده من طائفة الروم الأرثوذوكس ووالدته بروتستانتية، كان والده حبيب زيدان رجلاً أمياً يملك مطعمًا صغيراً للمأكولات الشعبية اللبنانية في "ساحة البرج" ببيروت، ويتردد على هذا المطعم رجال الفكر في ذلك الوقت المبكر من عصر النهضة العربية ومنهم يعقوب صروف وفارس نمر وهما دكتوران بالفلسفة وهما اللذان أسسا عام 1876م مجلة "المقتطف" الشهيرة في بيروت ثم نقلاها لاحقاً إلى مصر.
لما بلغ جرجي الخامسة من عمره أرسله أبوه إلى مدرسة متواضعة أشبه ب "الكتّاب" ليتعلم القراءة والكتابة والحساب، ليستطيع مساعدته في إدارة المطعم وضبط حساباته، استطاع الطفل تعلم الكتابة والقراءة بسرعة وظهرت لديه بوادر الذكاء المبكر فتعلم الإنكليزية بإتقان على يد أحد زبائن والده لقاء تقديم الطعام له مجاناً.
كانت والدته تحض ابنها على التعلم ولا ترغب بأن يكون مجرد صبي مطعم، وعندما ضغطت على والده بهذا الاتجاه قرر أن يعلمه حرفة وهو في الثانية عشرة من عمره فأرسله لتعلم صناعة الأحذية لكن الفتى مارسها لمدة عامين فقط وما لبث أن تركها.
توثقت صلته بالمفكرين زبائن مطعم أبيه، وخاصة بالدكتور يعقوب صروف وفارس نمر وغيرهم، وكان هؤلاء يدعونه إلى حضور احتفالات الكلية السورية البروتستانتية ببيروت (التي سميت الجامعة الأمريكية لاحقاً)، فقرر على الالتحاق بها مهما كلفه الأمر، ترك العمل نهائياً سنة 1881م وهو في العشرين من عمره واستطاع الالتحاق بمدرسة الطب في الجامعة الامريكية، لكن بعدما أمضى في مدرسة الطب عاماً كاملاً تزعم اضراباً طلابياً أدى لطرده من الجامعة.
اعتزم جورجي زيدان الهجرة إلى القاهرة عام 1883م فعمل محرراً في صحيفة "الزمان" اليومية، كما عُيّن مترجماً في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة عام 1884م، عاد بعدها الى بيروت عام1885م وانضم إلى المجمع العلمي الشرقي حيث أتقن اللغتين العبرانية والسريانية، ويقال أنه كان يتقن اللاتينية أيضاً.
بعد عام واحد سنة 1886م قام وهو بعمر الخامسة والعشرين بتأليف أول كتبه بعنوان "الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية" ووصفه بأنه رسالة في حوالي المائة صفحة تتضمن بعض الملاحظات على علم اللغة العربية وعلم اللغة ولكن لم يلق هذا النوع من الكتب الرواج.
ثم سافر جرجي زيدان إلى لندن فأقام فيها فترة قصيرة، قيل أن رحلته كانت تهدف لزيارة المتاحف والمكتبات، دوماً كان الغموض يشوب هذه الرحلة ويقال انه انتسب للماسونية الانكليزية خلالها.
عاد إلى مصر عام 1886م، تولى عقب عودته من لندن إدارة مجلة "المقتطف" التي نقلها صديقاه صروف ونمر للقاهرة من بيروت، كان يديرها الماسوني الشهير شاهين مكاريوس منذ عام 1876م في لبنان، وانتقلت إلى مصر عام 1885م، لكن بعد عامين في عام 1888م قدم جرجي استقالته من الجريدة.
أصدر جرجي مؤلفه الشهير " تاريخ الماسونية العام " في العام التالي لاستقالته في عام 1889م، وهو أول كتاب بالعربية عن تاريخ الماسونية، وأعلن ماسونيته فيه بشكل علني ودافع فيه باستماتة عنها.
بل انه ذكر فيه بجرأة غير مسبوقة أن ما كان يجمع بين ريتشارد قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي من مودة خلال الحروب الصليبية سببه أنهما هما الإثنان من الأخوة الماسون (ص 75 من الكتاب). كما ذكر تواريخ تأسيس المحافل في مدن سوريا الكبرى كبيروت والقدس ودمشق وحلب وحمص وعينتاب والاسكندرون وأنطاكيا وفي جميع أرجاء الدولة العثمانية و أورد جداولاً مفصلة فيها، وهو أول من ذكر أن الأمير عبد القادر الجزائري هو من أسس محفل "سوريا بشرق دمشق" تحت تبعية محفل "شرق إيطاليا الأعظم"، وقال في كتابه أن أهم أعداء الماسونية هم المسيحيون اليسوعيون الجزويت وجريدتهم "البشير". وأنهى كتابه بقوله: " إننا نعتقد بصحة مبدأ هذه الجمعية الشريفة".
بعدها بعامين أصدر في عام 1891م روايته التاريخية الأولى "المملوك الشارد" وهي عن مذبحة القلعة التي ذبح فيها محمد علي باشا مماليك مصر, وتتالت بعدها رواياته التاريخية حتى بلغت اثنتين وعشرين روايةً تاريخية، منها سبع عشرة رواية تتناول فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي.
لقيت رواياته رواجًا واسعًا وإقبالاً هائلاً، كما تُرجمت إلى عدد من اللغات، وصدرت منها عشرات الطبعات وما زالت رائجة حتى يومنا هذا.
تبرز أهمية هذه الروايات في أنها قدمت التاريخ في صورةٍ سهلة ومشوقة، وتعتبر قطعاً أول التجارب باللغة العربية فيما يخص الروايات التاريخية، بل يعتقد بعض النقاد أن الرواية التاريخية العربية ماتت بموت جرجي زيدان، اعتمدت هذه الروايات على تبسيط التاريخ وطرحه عبر شخصيات روائية بعدما كانت كتب التاريخ التقليدية تُقدم بطريقة جافة ومكررة وبألفاظ لغوية عفا عليها الزمان.
يأخذ عليه منتقدوه أنه أثار للمرة الأولى أفكاراً تمدح الدولة الفاطمية التي تعرضت لظلم صلاح الدين وفق رواياته هذا الطرح الذي عاد وطرحه مؤخراً الباحث المصري يوسف زيدان وعاد وأثار زوبعة من ردود الأفعال.
وهو أول من أثار فكرة أن هارون الرشيد كان يمضي أوقاته بالشراب ومضاجعة الجواري، وأثار فكرة النزاع بين الأمين والمأمون وتبعاته الشعوبية ما بين العرب والعجم، وأثار فكرة غزو عمرو بن العاص لمصر ونهبه لخيراتها وإحراقه لكتبها، كما هاجم الدولة الأموية وخاصة معاوية وابنه يزيد وتفاصيل خلافهم مع الحسن والحسين. وسلط الضوء على واقعة الجمل والأحداث التي تلت اغتيال الخليفة عثمان بن عفان.
في العام التالي لإصدار روايته الأولى في عام 1892م بدأ بإصدار مجلة الهلال التي ذكر أنه استمد اسمها من الهلال شعار الدولة العثمانية.
في عام 1894م أثارت مجلة الهلال ضجة كبيرة عندما طرحت للمرة الأولى كمجلة عربية قضية تحرر المرأة وكفاءتها للقيام بأعمال الرجال.
ثم أصدر جرجي زيدان كتاب " تاريخ التمدن الإسلامي" في خمسة أجزاء في الفترة من 1902 حتى 1906م، وأثار هذا الكتاب ضجة كبيرة حينها واعتبره المتشددون الإسلاميون تهجماً على التاريخ الإسلامي.
في سنة 1908م أنعم الخديوى عباس حلمى الثانى على جرجى زيدان بلقب "بيك".
ما أن حدث الانقلاب العثماني على السلطان عبد الحميد الثاني حتى سافر للأستانة والتقى جماعة الاتحاد والترقي، وقامت جريدة (إقدام) التركية بترجمة كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي" ونشرته فيها على حلقات. مالبث جرجي زيدان أن أصدر رواية "الانقلاب العثماني" التي وصف فيها السلطان عبد الحميد وصفا قاسيا وجعله قلقاً متوجساً وحشياً في تصرفاته كما اورد بالرواية وصف لأحوال الأتراك في آخر عهد السلطان عبد الحميد، ووصف لأحوال "الأحرار" العثمانيين، وجمعياتهم السرية، وما عانوا منه في سبيل طلب الدستور، ويتخلل الرواية وصف لحياة السلطان العثماني في "يلدز" وقصورها وحدائقها، وما لعبه الجواسيس والأعوان فيها، إلى أن تصل الأحداث بنا إلى انتصار جمعية الاتحاد والترقي ونيل الدستور في عام ١٩٠٨.
لم يكن جرجي مؤرخاً أو باحثاً متخصصاً ولا خريجاً أكاديمياً من أي معهد علمي متعلق بالتاريخ، ولكنه كان صحفياً ومؤلفاً أدبياً بصيغة ممتعة للقارئ غير المختص.
انتقده البعض بأن معظم مؤلفاته يغلب عليها السرد غير الموثق وفق الطرق الأكاديمية المعهودة وخلت رواياته من المراجع والتوثيق.
بينما دافع عنه البعض قائلين أنه روائي يعتمد كجميع الروائيين على الخيال الأدبي ورواياته ليست أبحاثاً تاريخية حتى تورد المراجع والمصادر عليها.
كان جرجي زيدان يعمل بانتظام شديد، وبعزيمة قوية، ينكب على القراءة والتدوين ست عشرة ساعة متوالية في اليوم، مكتفيًا من النوم بأربع ساعات في أخريات حياته، يسابق الزمن في إنجاز أعماله الضخمة، ووافته المنية وهو بين كتبه وأوراقه في مساء يوم الثلاثاء 21 من حزيران 1914م لم يتجاوز الخمسين من العمر.
جميع الحقوق محفوظة لـدار الوثائق الرقمية التاريخية © 2024 https://dig-doc.org/ |