صباح فخري رمز أخير لـ "الإسلام الحلبي"

بوفاة صباح فخري، رحل آخر الرموز الحية للـ "الإسلام الحلبي". على الأرجح أن هذا المصطلح لم يُستخدم بعد، خاصة مع رواج مصطلح "الإسلام الشامي" الذي يشير إلى التدين المنفتح المعتدل في بلاد الشام، ولكن "الإسلام الحلبي" يمتاز عن "الشامي" باعتماد الفن، وخاصة الغناء والموسيقى، أساسًا للتواصل مع الخالق ولقبول الآخر مهما كان دينه ومعتقده.

صباح أبو قوس ابن أحد التجار الحلبيين المتدينين الصوفيين حافظي القرآن من أبناء حي القصيلة، أحد أحياء حلب القديمة، وهو حي شعبي عريق تعود أزقته الحجرية لمئات السنين، وبيوته التقليدية تتميز بأرض الحوش الداخلية وفيها نافورة الماء وأشجار الليمون والياسمين. في هذه الأحياء تُبنى في أرض الحوش مصطبة حجرية مخصصة لعازفي الموسيقى وللمطربين، فالسهرات الطربية مقدسة، ورغم أن سكان هذه الأحياء التقليدية من متوسطي الحال ومن المحافظين دينيًا، لكنهم يستقبلون في حفلاتهم الغنائية الضيوف من شتى الملل والنحل، وتستمع السيدات لحفلات الطرب من وراء النوافذ.

كانت حلب في أواخر عهد الانتداب الفرنسي مليئة بالأجانب المتعطشين لهذه الأجواء الشرقية، وكان الحلبي يشعر بالفخر لاستضافة هؤلاء وإطلاعهم على عمق تحضر سكان المدينة.

في ذلك الزمن كان لا بد لكل صوفي حلبي من إتقان المقامات الموسيقية الشرقية التي تعتبر أساسًا في أناشيد حلقات الذكر الصوفية الأسبوعية، يمتاز الصوفي الحلبي بتقبله كل أشكال الفنون، وتقبله الموسيقى المرافقة للإنشاد الديني. التدين الصوفي الحلبي مقرون بإنشاد الأذكار الدينية في الزوايا وفق مقامات موسيقية عمرها مئات السنين، ولا يمكن أن يصل الصوفي دون إيقاع موسيقي متصاعد لما يسمى بـ "الحال"، وهو أعلى حالات نشوة التواصل مع الخالق.

في النصف الأول من القرن العشرين كان أهم معلمي الغناء يحملون اللقب الديني "الشيخ"، في بداية القرن العشرين اشتهر الشيخ عمر البطش الذي تعلم الغناء في حلقات الذكر الصوفية الشاذلية مع الشيخ صبحي الحريري مؤذن جامع قرلق، والشيخ علي الدرويش الذي تعلم الموسيقى في حلقات المتصوفة المولوية وأسس معهد حلب الموسيقي، والشيخ علي القصبجي الذي عمل منشدًا ومرتلًا دينيًا، وهو حلبي المولد ووالد ملحن مصر الأول محمد القصبجي، وأخيرًا الشيخ بكري الكردي مؤذن جامع الملّاخانة.

على أيدي أولئك المشايخ وفي حلقات ذكرهم الصوفية تتلمذ الفتى صباح الدين أبو قوس، وهو من مواليد ربيع العام 1933. حفظ القرآن كاملاً في جامع السكاكيني قبل بلوغه العاشرة من عمره على عادة الأطفال في ذلك الزمان. كما أتقن العزف على العود وهو الآلة المفضلة في حفلات طرب حلب.

في سن الثانية عشرة لحن الموسيقي الحلبي محمد رجب له خصيصًا الموشح الأندلسي "يا هلالًا غاب عني واحتجب" فغناه صباح وأبدع فيه. وبدأت سيدات حلب تطلبن ذلك الفتى للغناء في "قبول النسوان" الذي تشتهر السيدات الحلبيات بإقامته أسبوعيًا، وعماده العزف والغناء والطرب.
وعندما زار رئيس الجمهورية شكري القوتلي حلب عام 1946، دُعي الفتى البالغ من العمر ثلاثة عشر عامًا للغناء أمامه.

في عام 1948، وهو في الخامسة عشرة من عمره، وضع لحنه الأول وكان للأنشودة الدينية "يا رايحين لبيت الله.. مع السلامة وألف سلام.. مبروك عليك يا عبدالله.. يا قاصد كعبة الإسلام" بإشراف وتوجيه موسيقي من أستاذه الشيخ عمر البطش.

استضافت حلقات الذكر الصوفية الحلبية أمير الكمان سامي الشوا، وهو من مسيحيي حلب الذين هاجروا إلى مصر، وقبلت هذه الحلقات بانفتاحها على الغير أن يشارك كمانه الآلة الموسيقية المعتمدة لدى المتصوفة وهي الناي خلال الإنشاد الديني، بل عزف الشوا بكمانه مقطوعة تمثل الآذان الداعي إلى الصلاة. أدرك الشوا مواهب الفتى صباح الدين أبو قوس، فمنحه اسمه الفني الأول وهو "صباح محمد" واصطحبه إلى دمشق حيث التحق بالمعهد الموسيقي الشرقي فيها.

طرب لسماعه الدمشقي فخري البارودي الذي أسس ذلك المعهد عام 1950 وقدمه للإذاعة السورية بعدما أعلن المذيع الاسم الفني الجديد لهذا الفتى "صباح فخري"، في إشارة لفخري البارودي.

ولكنه عاد بعدها لحلب، وبدأ بإبراز جمال صوته عبر رفع الأذان في جامع جمال بحي الكلاسة الحلبي القديم على عادة أهم معلمي الطرب بحلب حينذاك. وتوقف صباح عن الغناء طوال عقد الخمسينيات بعد حشرجة أصابت صوته جعلته ينصرف تمامًا عن هذا الفن، ولكن هذه الحشرجة اختفت مع نضوج الفتى الجسدي واكتمال رجولته.

مع تأسيس التلفزيون العربي السوري عام 1960 عاد الشاب النحيف البنية للظهور الفني في برنامج "الموسيقا العربية" سنة 1964 الذي كان يعده ويخرجه الراحل جميل ولاية، فغنى دور "أصل الغرام نظرة" لملحنه المصري أحمد عثمان وهو الدور الذي غنته سابقًا ماري جبران، كما غناه قبله رديفه الشاب الصاعد محمد خيري الذي لم تكتب له حياة طويلة، واستطاع صباح ...

... البرنامج التلفزيوني "خيمة حماد" وغنى المواويل الحلبية التي أطلقت شهرته كموال "يا مال الشام ويالله يا مالي.. طال المطال يا حلوة تعالي". وشاركته المطربة اللبنانية الشحرورة صباح إحدى حلقات البرنامج وأعجبت بصوته ووعدته بتأمين فرصة له بالغناء في لبنان، وفعلًا استطاعت أن تؤمن له عقدًا للغناء في فندق طانيوس في مدينة عاليه، في أواسط الستينات كان السياح العرب يصبُّون هناك فاشتهر صباح فخري على مستوى العالم العربي وبدأ نجمه باللمعان.

في عام 1968 قامت الجالية السورية واللبنانية في فنزويلا بدعوته لإقامة حفل ضخم في مدينة كاركاس غنى فيه صباح بصوته الشاب لمدة عشر ساعات متواصلة دون توقف. والعام نفسه 1968 شارك في فيلم الصعاليك بطولة دريد لحام ونهاد قلعي والممثلة المصرية مريم فخر الدين كمطرب مطعم الفندق الذي تجري فيه أحداث الفيلم.

غنى صباح في مصر للمرة الأولى عام 1972 في حفل جامعة القاهرة ونقل الحفل صوت العرب على الهواء وتم التعريف عنه "مطرب سوريا الأول"، وغنى في هذا الحفل موشح "يا شادي الألحان". وغنى في تونس عام 1973 مجموعة من الموشحات الأندلسية ثم قلده الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة وسام تونس الثقافي عام 1975.

في عام 1974 خاض صباح فخري معترك التلفزيوني عندما لعب دور البطولة في المسلسل اللبناني الغنائي الوادي الكبير وشاركته البطولة وردة الجزائرية، وكانت معظم ألحان أغاني المسلسل للموسيقار بليغ حمدي.

وفي عام 1978م قام التلفزيون السوري بتصوير حلقات برنامج "نغم الأمس" الذي حلق فيه صباح فخري وأبدع حيث أفرد لكل مقام حلقة موسيقية كاملة، وفي ذات العام 1978م انطلق صباح فخري نحو العالمية عندما غنى في قصر المؤتمرات بباريس.

وتعتبر فترة السبعينيات من القرن العشرين قمة إبداعه وكان في الأربعينات من عمره.

غنى صباح فخري أغاني الحب والغرام والغزل وشرب المُدام، منها الأغنية التي يقول فيها "وكشفت على صدرها وقالت تعا اتفرج"، ودور "أنا في سكرين من خمر وعين" والتي يقول فيها "يا حبيبي أقبل الليل.. فهيّا للمدام"، وقام بتلحين وغناء كلمات الموشح "خمرة الحب اسقنيها ..هم قلبي تنسينيه".

رغم جرأة كلمات هذه الأغنيات، وخاصة أنها صادرة عن مغنٍّ ذي خلفية دينية، وفي تلك الفترة المبكرة نسبيًا، فقد احترمت الجماهير مؤديها، واعتبرت ما يقدمه فنًا ملتزمًا بالتقاليد التراثية عامة والصوفية خاصة. لم تكن المعاني المطروحة عبر كلمات هذه الموشحات والأدوار والأغاني معانٍ مبتذلة ومرفوضة بل كانت تُشعر المستمعين بالنشوة، سواء منهم المتدينون أو غيرهم.

كان الحلبيون ينظرون بتسامح كامل إلى حالات النشوة والرقص والطرب التي ترافق هذا الغناء المحبب، بل بالتسامح حتى مع تجرع البعض ولو خفية بضع جرعات من الخمر خلال هذه السهرات الطربية. بل كان التلميح الدائم بالتمني أن يقوم أحدهم بـ"تزييت" كأس الزهورات الذي يضعه صباح أمامه ليرطب حنجرته أثناء الفقرات الغنائية الطويلة التي تمتد ساعات من دون توقف. فعندما يكون "الحجِّي (الحاج) معبي الطاسة" فإنه يجود ويجود.

اتصف صباح فخري بالالتزام الديني الكامل، وكان لقبه المفضل "الحجي" أو "أبو محمد"، واتصف سلوك أفراد أسرته الاجتماعي بالمحافظة على التقاليد الحلبية الملتزمة، ولم يسمح إطلاقًا لأولاده بسلوك الطرق الاجتماعية التي يسلكها الفنانون وأبناؤهم عادة، وحذرني مرارًا وهو يوكلني كمحام، في الإدارة القانونية لعقار يمتلكه في حلب، من أن أطلب منه أي وساطة فيما يوكلني بالقيام به.

في حلب فقط يخرج الغناء والطرب، والتسامح بالرقص علانية حد النشوة، وحتى في تجرع الخمر ولو خفية، يخرج من شيوخ الجوامع والتكايا الصوفية، هذا التسامح الذي يرفض تمامًا كل أشكال التطرف ويقبل باحتضان الآخر مهما كان معتقده. هذا هو "الإسلام الحلبي" الذي رحل آخر رموزه.

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة