جوز حسينة مات

ما أن دخل بيته حتى سارعت ابنته الصغيرة إليه قائلة :  ( بابا جوز حسينة مات ).

 لم يعني  له هذا الخبر أي شيء ، لم يتأثر أو يحزن أبدا .

بل بدأ يفكر بالمتاعب التي قد تسببها حسينة بعدما مات زوجها ، قد تطلب السفر إلى بلدها لتحضر جنازة زوجها ، أف ربما لن تعود بعدها ، و سيخسر الأموال التي دفعها لاستقدامها ، و سيعود إلى دائرة المتاعب و الانتظار للحصول على حسينة جديدة .

موت ذلك الرجل لم يعني له إلا هذه الأفكار .

اقتربت زوجته منه و هي حزينة جدا : اتصل أهل زوج حسينة ، و اخبروها أن زوجها قد مات منذ سبعة اشهر ، و أن أمها لم تشأ أن تخبرها في حينه ، لئلا تقطع عقد عملها و تعود .

حُزن زوجته ، أثار ضحكه ، فهل تستحق حسينة أن نحزن لأن زوجها قد مات .

حسينة تركت في بلدها طفلان و زوج مريض ، و جاءت لتعمل بعقد لمدة ثلاث سنوات .

 عندما وصلت كانت تلبس ثيابا بالية ، طلبت منها زوجته ، أن ترميها بعدما  اشترت لها ثيابا لائقة بمن ستكون خادمتها . 

و اكتشفت بعد فترة أنها لم ترمي ثيابها هذه ، و بعد تعنيفها بشدة لاحتفاظها بهذه الثياب الرثة ، قالت حسينة بعربيتها المكسرة و عيناها مليئة بالدموع : إن أهلها باعوا أثاث بيتهم ليشتروا لها هذه الملابس كي تسافر بها .

حسينة تعمل منذ الصباح حتى المساء بصمت ، بدون أي تذمر ، و تعامل ابنه الصغير أفضل من معاملته له .

أما ابنته الصغيرة المشاكسة ، فتضرب حسينة ، و  تزعج حسينة ، من الصباح حتى المساء ، و حسينة تكتفي بالصمت .

حسينة تطلب بأدب و بصوت خافت عبر ابنته الصغيرة : أن تتصل بأهلها كل ثلاثة أشهر مرة ، و عندما يسمح له وقته ، يصطحبها إلى احد مراكز الانترنت ، لكي تحاول - دون جدوى - الاتصال بهم ،  لأنهم يقطنون في قرية بعيدة لا يوجد فيها إلا هاتف واحد ، و هو غالبا لا يعمل .

و تعود لتنتظر ثلاثة اشهر أخرى كي تحاول ثانية .

حسينة بعد ثلاثة سنوات عمل ، قد تجمع حوالي ثلاثة آلاف دولار ، يجمعها هو في ثلاثة أيام ، و عندما سألها على سبيل التسلية ماذا ستفعل بهذه الثروة عندما تعود ، أجابت بعربيتها المكسرة و بخجل : إنها ستشتري طاولة و كراسي و ربما براد و تلفزيون .

 تذكر المرحلة التي كان يسافر فيها أولاد بلده للخليج للعمل عدة سنوات ، لكي يحضروا معهم بعض الأدوات الكهربائية ( فيديو و مكيف و ميكرويف ... ) و ليتفاخروا بها  أمام أهاليهم  .

عندما سأله البعض عن فقراء يعرفهم ليعطوهم أموال الصدقة ، و أجابهم انه يفكر بإعطاء صدقاته لحسينة ، فلم لا يفعلوا ذلك مع حسيناتهم ، أجابوه جميعا : هؤلاء يقبضون رواتبهم بالدولار ، و لا يستحقون صدقة ، كما إنهم يأكلون و يشربون و ينامون مجانا لدينا ، و هذا يكفي .

فعلا من تركت بيتا و أولادا معدمين ، لعدة سنوات ، و تعمل لمدة قد تصل إلى خمسة عشر ساعة يوميا ، بدون إجازة او عطلة ، و بدون أي حقوق عمالية ، كي تحصل على مائة دولار  شهريا ، لا يرضاها عامل تستقدمه لتنظيف جدران المنزل ، كأجر  يوم او يومين ، من تحصل على هذا الراتب الضخم لا تستحق زكاة او صدقة .

طلبت منه زوجته أن يسمح لحسينة بمحاولة الاتصال بأهلها ، للاستفسار عن الأخبار التي  وصلتها ، تأفف من عبء اصطحابها إلى مركز انترنت ، و فكر أنها يمكن أن تتصل من هاتف مكتبه الدولي .

  توجس أن تعرف أنها يمكن أن تتصل مباشرة بأهلها من هاتف مكتبه ، فقد تتعود الاتصال في غيابه ، عندما تنظف له المكتب .

و لكن هذه المخاطرة أسهل من مهمة اصطحابها لمركز انترنت يبعد شارعين عن منزله ، و انتظارها لتحاول الاتصال المرة تلو المرة دون جدوى .

أدخلها المكتب على مضض ، و بدأت تتصل المرة تلو المرة دون جدوى ، حتى أجاب الهاتف صدفة ، و استطاعت التكلم مع والدتها .

 تفاجىء و تأثر بشدة عندما أجهشت أمامه بالبكاء على الهاتف ، و هي تكلم والدتها و تصرخ باسم ابنها :  فيصل...  فيصل .. بشوق و لوعة حارقة .

أدرك أن لحسينة صوت ، و أن حسينة أم ، و أن لها أطفال لم تكلمهم منذ سنتين .

 و تذكر انه عندما أمضى في رحلة الحج عشرون يوما ، لم يرى فيهم أطفاله ، كاد يفقد صوابه ، شوقا و لوعة لهم .

تذكر حسينة بعدما سمعت نبأ زوجها ،و هي تنظف زجاج نوافذ المنزل ، و دموعها تتساقط على خديها ...و بصمت ،  و أدرك أن النساء في بلده عندما يفقدن أزواجهن يمضين أشهرا في الحزن ، و تتجند النساء للتخفيف عنهم و مواساتهن .

تأثر بشدة ، و اخذ يحاول فهم الكلمات المتدفقة من فم حسينة بلغتها الأصلية ،  و المختلطة بنشيجها و دموعها.

 و استفاق بعد برهة على أن حسينة قد أطالت مكالمتها لعدة دقائق ، و أن تكلفة مكالمتها قد تزيد على خمسة دولارات ، و لكنه قال لا بأس لن تتكرر هذه المناسبة فلا بأس من دقيقة او دقيقتين إضافتين .

 و لكنه عاد و شعر بالضيق و كاد ينهرها لإنهاء المكالمة ، بعدما انتبه إلى تأخره عن الموعد الضروري الذي سيذهب إليه في الجمعية الخيرية التي تطوع للعمل فيها لمساعدة الفقراء .

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة