حلب تحكمها امرأة

امرأة ، ولدت في قلعة حلب ، وتوفيت ودفنت فيها ، ابنة ملك ، وتزوجت من ملك ، وكانت اخت الملوك ، و أم الملك ، ثم كانت ملكة حلب ، ووصية على حفيدها الملك .

إنها الملكة ضيفة خاتون ملكة حلب.

و هل حازت غيرها من نساء الأرض جميع هذه الصفات الملكية ، وربما تكون ملكتنا هذه، جدة جميع النساء الحلبيات اللواتي يحكمن أزواجهن حالياً ، واللواتي كسبن سمعة المرأة الحلبية (القادرة ) .

فقد كانت ابنة الملك العادل ، شقيق صلاح الدين الأيوبي ، ملك مصر والشام ،و اخت الملك الكامل ملك مصر ، وتزوجت من الملك الظاهر ملك حلب ، وهو ابن صلاح الدين ، فكانت زوجة الملك ، وبعد وفاة زوجها تولى مُلك حلب ابنها الملك العزيز ، فكانت أم الملك ، وبعد وفاة ابنها الذي ترك حفيدها ، وهو طفل صغير في السابعة من عمره ، كانت هي ملكة حلب ، وصية على الملك الصغير حتى يكبر .

كان مولدها سنة 582 هجري / 1186 م بقلعة حلب ، ولمـا ولـدت كـان عنـد أبيهـا الملـك العـادل ضيف ، فسماها ضيفة .

كانت تُخاطب بلقب ، الستر العالي ، وهو لقب مشابه للقب الخلفاء العثمانيين ، الباب العالي ، والذين أتوا بعدها بزمن .

حكمت حلب لمدة ستة سنوات ، واجهت فيها ، الصليبيين ، والسلاجقة ، وطلائع الغزاة الخوارزميين والمغول ، وحلف لها بالطاعة ملوك الأيوبيين في مصر ودمشق وحمص والموصل .

كانت شاعرة أديبة بارعة ، بنت جامعتين في حلب منذ ثمانمائة عام ، وتكفلت بجميع مصاريفهما ومصاريف المدرسين والطلاب .

و لننظر الآن في قصة حياة هذه الملكة ، والتي يجب علينا ، تقديم التكريم والتقدير لها ، والحري بالقائمين على حلب أن يطلقوا اسمها على أهم شوارع حلب ، وأن يعرفها الناس ويعرفوا حق قدرها .

حلب زمن حكم صلاح الدين وأولاده ، في القرن الثالث عشر الميلادي :

تلقب صلاح الدين الأيوبي بالسلطان في أواخر القرن الثاني عشر ميلادي ، فقد أتم توحيد مصر والشام تحت رايته ، وبعد وفاة صلاح الدين قسمت مملكته ، بين أولاده الخمسة وأخوه الملك العادل ، والد ملكتنا ضيفة خاتون .

كان الملك العادل صفوحاً صبوراً على الأذى، كثير الجهاد، وحضر مع أخيه مواقعه كلها أو أكثرها، وله في تلك الأيام اليد البيضاء والراية العلياء ، أنفق في عام الغلاء بمصر أموالاً عظيمة جداً .

وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئاً كثيراً، ثم كفن على نفقته في عام الفناء ثلاثمائة ألف إنسان من الغرباء.

وكان كثير الصدقة في أيام مرضه ، حتى كان يخلع ما عليه جميعاً ويتصدق به .

وكان كثير الأكل، ممتعاً بصحته وعافيته، مع كثرة صيامه ، يأكل في اليوم الواحد عدة وجبات ، ثم بعد كل هذا يأكل وقت النوم رطلاً من الحلوى السكرية اليابسة الدمشقية .

وكان يعتريه مرض في أنفه، ( حساسية ) ، في زمن الورد ، وكان لا يقدر على الإقامة بدمشق حتى ينتهي الورد.

وتوفي عن خمس وسبعين سنة.

ومما تجدر الإشارة إليه أن السلطان العادل قد أنجب ستة عشرة ولدًا ، أشهرهم : الملك الكامل صاحب مصر، والملك الأشرف صاحب دمشق، والملك الصالح صاحب الجزيرة وشمال سوريا ، والملك المظفر صاحب الرها وتسمى الآن أورفا وهي في تركيا ، والملك الحافظ صاحب قلعة جعبر .

وكانوا جميعًا على ثقافة عالية، ومعرفة غزيرة بالعلوم الدينية والأدبية، فضلاً عن معرفتهم نظم الشعر العربي ، وإسهامهم الكبير في دفع الحركة العلمية ، بما أنشئوه من مدارس ومساجد وزوايا ودور للحديث .

وكان له عدة بنات أشهرهن ملكتنا ضيفة خاتون ، وأخواتها غازية خاتون، وملكة خاتون، التي تزوجها الملك المنصور، صاحب حماة، وعصمة الدين مؤنسة خاتون، وزهرة خاتون .

الملك الظاهر زوج ضيفة خاتون

كانت حلب للملك العادل ، قبل أن يأخذها منه ، أخوه السلطان صلاح الدين ، ويعطيها لابنه الملك الظاهر ،الذي كان من خيار الملوك ، وكان الملك الظاهر ابن صلاح الدين ، جميل الصورة ، رائع الملاحة ، موصوفاً بالجمال في صغره وفي كبره .

وله ذكاء ودهاء ومكر ، وأعظم دليل على دهائه ، أنه كان يصادق ملوك الأقاليم البعيدة ويلاطفهم ، ويوهمهم أنه لولاه لكان الملك العادل يغزوهم .

ويوهم عمه الملك العادل أنه لولاه لما أطاعه أحد من الملوك ، ولأظهروا معاداتهم له ، فكان بهذا التدبير يستولي على الجهتين ، ويستعبد الفريقين ، ويشغل بعضهم ببعض .

وكان كريماً ، يغمر الملوك بالتحف ، والشعراء بالعطايا، ولكن كان فيه عسف ، ويعاقب على الذنب اليسير ، شديداً

وكان يكرم العلماء والشعراء والفقراء .

وأقام في الملك ثلاثين سنة ، وحضر كثيراً من الغزوات مع أبيه صلاح الدين .

وكان قد تزوج قبل ضيفة خاتون ، بأختها غازية ، فلما توفيت ، تزوج بأختها ضيفة خاتون ، عندما بلغت حوالي الخامسة والعشرين من العمر ، وكان لها عرس مشهور.

ضيفة خاتون زوجة ملك حلب

وخرجت ضيفة خاتون ، من مصر إلى حلب ، فسار الملك الظاهر من حلب إلى دمشق ، للقياها ، وكان مهرها خمسين ألف دينار ذهبي ، وهو مبلغ يعادل المليون دولار تقريبا في عصرنا الحالي ، وكان جهازها محمولا على ثلاثمائة جمل وخمسين بغلاً ، ومعها مائتا جارية لتخدمها ، أي أن جهازها يحتاج بلغة هذا العصر إلى حوالي المأتي سيارة نقل .

فلما أدخلت على الملك الظاهر قدم لها خمسة عقود جواهر ، قيمتها ثلاث مائة وخمسون ألف درهم .

ووصلت إلى حلب في النصف من المحرم من سنة 609 هجري/ 1212م .

و نقول ايضا على سبيل الطرفة : يبدو ان عادة غلاء المهور والمبالغة في هدايا العرس الذهبية ( المليك بالحلبي ) ، هي عادة متأصلة لدى الحلبيين ، ربما بدأتها ضيفة خاتون ، واستمرت عليها نساء حلب حتى هذا التاريخ .

وجاءت ضيفة خاتون من الملك الظاهر بولي عهده ، الملك العزيز ، بعد عام من زواجها، وأظهر الملك السرور بولادته ، فضربت البشائر، وزينت مدينة حلب، وعقدت القباب.

وصاغ له عشرة مهود من الذهب والفضة ، وقدم للطفل ثلاث دروج من اللؤلؤ والياقوت ، ودرعان وخوذتان من اللؤلؤ ،وثلاثة سروج مطرزة بالجواهر ، وثلاثة سيوف غلفها بالذهب والياقوت ، ورماح رؤوسها جواهر .

وبقيت حلب مزينة شهرين ، والناس في الأكل والشرب ، ولم يبق صنف من أصناف الناس ، إلا أفاض عليهم النعم ووصلهم بالإحسان.

وسير إلى المدارس الغنم والذهب ، وأمرهم أن يعملوا الولائم ، ثم فعل ذلك مع الأجناد والغلمان والخدم.

كان عنده من إخوته وأولادهم وأحفادهم ، مائة وخمسة وعشرون شخصاً ، فزوج الذكور منهم بالإناث ، وعقد في يوم واحد خمسة وعشرين عقداً بينهم ، ثم صار كل ليلة يعمل عرساً ويحتفل به .

في عهد الملك الظاهر حفرت قناة مياه لجر الماء إلى حلب ونظفت عيونها، وكسى مجراها بالكلس، حتى كثر الماء بحلب.

بنى القساطل في الأحياء ، لتوزيع الماء على الناس ، ووقف على القناة وقف ، يعود ريعه ، لتأمين نفقات إصلاحها، وعمر باب قلعة حلب،و وسع خندقها وعمقه ، إلى أن نبع الماء .

وعندما اعتل واعترته أمراض شتى واشتد به الحال، جمع قواد الجيش وأمراءه، وحلفوا بالولاء لابنه الملك العزيز ، وهو ابن ثلاث سنين ، وبايعه جده الملك العادل ، وخاله الملك الأشرف .

ومات السلطان الملك الظاهر بقلعة حلب، في سنة 613 هجري / 1216 م ، وكتم خبر موته ذلك اليوم، حتى دفن في الحجرة، إلى جانب الدار الكبيرة، التي أنشأها بقلعة حلب ، ودثرت ودثر قبره ، وهما غير معروفين حاليا .

ثم ركب في اليوم الثاني من موته ولده: الملك العزيز، ونزل بالثياب السود ، إلى أسفل جسر القلعة، وصعد أكابر البلد إليه، وأصيب أهل حلب بمصيبة فتت في أعضادهم.

ونزل الملك العزيز، وجلس في دار العدل، في منصب أبيه، وحلف يمين الولاء جماعة المقدمين من أهل البلد، وكان الحلف على الموالاة والطاعة للملك العزيز، وعلى الموالاة للأتابك شهاب الدين ، وهو الأمير الذي تولى الحكم بالوصاية على الملك الصغير ، وانقاد الجميع له طائعين ومكرهين ، ولم يكن لملكتنا ضيفة خاتون في تلك الفترة أية دور .

ونزل الملك العادل والد ضيفة خاتون ، من مصر إلى الشام، وأرسل إلى الأتابك بما يطيب نفسه، وسير خلعة للملك العزيز حفيده ، مما أوجب السكون والثقة.

بعد عامين ، ورد الخبر بموت الملك العادل ، وكان قد مرض ، ورحل إلى دمشق، فمات في الطريق ، في سنة 615/1218 م .

تولى الملك بعده ابنه الملك الكامل ، أخو ضيفة خاتون ، وضرب اسم الملك الكامل، والملك العزيز، على النقود بحلب .

الملك الكامل ابن شقيق صلاح الدين ، هو الذي عقد صلحاً ، تنازل بموجبه عن القدس للفرنجة ، عدا الصخرة والمسجد الأقصى ، وعلى أن لا يكون لهم خارجها حكم، وأعطاهم بيت لحم، وضياعاً ، في طريقهم من عكا إلى القدس .

الملك العزيز ابن ضيفة خاتون يستلم ملك حلب

في السابعة عشر من عمره ، تزوج الملك العزيز ، وأنجب ولدا ، وسماه الملك الناصر صلاح الدين الثاني ، وأوصى له بالملك من بعده .

استقل الملك العزيز بملكه بحلب ، ورفعت وصاية الاتابك عنه ، وتسلم خزائنه وأمواله من الأتابك شهاب الدين، ورتب الولاة في القلاع، وحلفت الولايات بالولاء له ، ومال إلى رعيته، وأحسن إليهم .

احتاج يوما إلى الاغتسال بماء بارد، فأصابته الحمى، ودامت به الحمى، إلى أن قوي مرضه ، فاستحلف الناس على البيعة والولاء لولده الملك الناصر صلاح الدين الثاني .

وقد مات، في شهر ربيع الأول، من سنة 634 /1236 ، عن عمر يناهز أربعة وعشرين عاما .

ضيفة خاتون ملكة حلب

بعد وفـاة ابنها الملك العزيز ، ملكت حلب ضيفة خاتون ، وكانت في الخمسين من عمرها ، وذلك لان ولي عهده ، حفيدها ، كان يبلغ السابعة من العمر فقط ، وتصرفت في الملك تصرف السلاطين ، وقامت بالملك أحسن قيام ، وكانت مـدة ملكهـا نحـو سـت سنيـن، أزالت المظالم والضرائب الجائرة في جميع بلاد حلب.

كانت تؤثر الفقراء والعلماء، وتحمل إليهم الصدقات الكثيرة.

كانت تُخاطب في الرسائل الموجهة إليها ..... ( إلى الستر العالي الخاتوني ) .

كان لها دَور بارز في إثراء الحركة العلمية في حلب، حيث اهتمّت بالعلم والعلماء، وقربت إليها أهل العلم والدين وبذلت لهم الكثير .

فضلاً عن أنها أنشأت مدرستين ، تعادل كل منها جامعة في وقتنا هذا ،الأولى : اختصت بالعلوم الدينية الشرعية على المذهب الشافعي وسميت بمدرسة الفردوس ( أي الجنة ) ،و الثانية : مدرسة للعلوم الشرعية والعلوم الدنيوية المختلفة وكانت تسمى الخانقاه ، وسميت بخانقاه الفرافرة .

- أما مدرسة الفردوس : فتقع خارج باب المقام بحلب ، وعيّنت الملكة في المدرسة "مدرّسًا ومعيدًا وإمامًا ومؤذّنًا وبوّابًا وعشرين فقيهًا.

ويتضح من هذه التعيينات أمران مهمّان:

أما الأمر الأول فهو شكل الهيئة التعليمية في مدارس العصر الأيوبي؛ إذ كان على رأس تلك الهيئة : المدرّس ، ( وهو منصب كمنصب رئيس الجامعة الان ) والذي كان دائمًا يُختار على أساس شهرته ومكانته وسعة علمه، ويعتبر من مشايخ علماء العصر؛ لأن هذا الاعتبار تتوقف عليه سمعة وشهرة المدرسة.

لذا فقد كان من واجبات المدرّس أن يعطي الدرس حقه شرحًا وتوضيحًا ؛ ثم يأتي بعده المعيد، الذي كانت مهمته كما أوضحها القلقشندي، إعادة ما ألقاه المدرّس على الطلبة بعد انصرافه ليزداد فهمهم ، كما عرّف السبكي المعيد بأنه "عليه قدر زائد على سماع الدرس ومن تفهيم بعض الطلبة ونفعهم وعمل ما يقتضيه لفظ الإعادة" .

ويتضح من هذا أن المعيد كان يساعد المدرّس، حيث يعيد على الطلبة ما ألقاه المدرّس، فهو أكبر منهم درجة ، ويجلس معهم ليستمع إلى ما يعطيه المدرّس، ثم يرجع إليه الطلاب ليشرح لهم ما قد يكون قد صعب عليهم، وهذا يبين أن المدارس الأيوبية كانت أشبه بجامعات اليوم؛ مما يدل على أنها كانت في أوج الرقيّ والإتقان .

وإلى جانب المدرّس والمعيد، كان يعيّن عدد كبير من الفقهاء .

أما الأمر الثاني فهو أن المدرسة الأيوبية كانت بمثابة مسجد تقام فيها الصلاة؛ لذا فقد كان يعيّن فيها مؤذّن وإمام

فقد كان يتقرّب بإنشائها ، العبد إلى ربه.

فإذا كان إنشاء المساجد يعتبر من أجلّ الأعمال التي يمكن أن يتقرّب بها المسلم إلى ربه ، فإن المدارس أيضًا اعتبرت قلاعًا للعقيدة وحصونًا للدين .

ويا ليت رجال الخير في عصرنا هذا ، لا يكتفون ببناء الجوامع الفارهة قصد الثواب ، بل يبنوا أيضا دور للتعليم والجامعات والمكتبات ، أسوة بحال حلب قبل ثمانمائة عام .

و منشأة الجامعة المدرسة عبارة عن مجموعة من المباني ، تتضمن مدرسة وسكن للطلاب وجامع ومدفن خاص .

والطريف أن بناء المدرسة تعرض للتنقيب والنهب عدة مرات ، على يد لصوص اللقى الأثرية ، والطامحين إلى الثروة من خلال الكنوز الذهبية، دليلهم إلى ذلك آية منقوشة على مدخل المدرسة ،و التي فسرها هؤلاء على أنها برهان يشير إلى موضع كنز داخل البناء ، وتقول الآية الكريمة المكتوبة على الباب : ( يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهي النفس وتلذ الأعين وانتم فيها خالدون ).

- والجامعة الثانية هي خانقاه الفرافرة :و "الخانقاه" لفظة فارسية معناها البيت ، وتقع هذه الخانقاه الآن بمحلة الفرافرة , وتسمى الناصرية لأنه كتب على بابها أنها أنشئت زمن الملك الناصر ، حفيد ضيفة خاتون .

و"الخانقاه" بناء مؤلف من ساحة مُحاطة أواوين أربعةٍ، بِلا مئذنةٍ ولا منبرٍ،و يضمّ مسجدًا لا تُقام فيه صلاة الجمعة، ويُلحَق به ضريح ومدرسة وسبيل ماء ، فهو إذًا كالمدرسة من حيث التّصميم والدّور ، ولكن تميّزت الخانقاه عن المدرسة وقامت بدورٍ أوسع، فكانت تُعَلّم فيها، إلى جانب الدّين، المواد العلمية المُختلفة.

وعُرِفَت الخانقاه زمن العثمانيين بـ"التكية" ، ولكن المؤسف أنّ هذه المؤسسة العلمية انتهت كمنامةٍ للفقراء، وصار دورها سلبيًا بعد أن كانت من المؤسّسات الفاعلة في المُجتمع الإسلامي.

أعمال السياسة والحكم للملكة ضيفة خاتون

- إرسالها للسفارات لتوطيد ملكها :كانت من اول اعمالها الملكية انها سيرت إلى مصر رسولين ، إلى الملك الكامل أخيها ، ليحلفاه بعدم معاداة الملك الناصر حفيدها ، ويستوثقا من جهته ، فلما وصلا إليه، أظهر الألم والحزن لموته، وحلف للملك الناصر ، ولكنه طلب من الرسولين أن يتولى هو تربية الملك الناصر ، لا جدته ضيفة خاتون ، فاستوحشوا منه .

- تحالفها مع الملوك جيرانها : وكان الملك الأشرف هو ملك دمشق ، فاتفق هو والملك المجاهد صاحب حمص ، والملك المظفر صاحب حماة ، وعزموا على الخروج عن طاعة وموالاة الملك الكامل ، وأن يبقوا ملكه محصورا في مصر .

وأرسلوا إلى الملكة الخاتون والأمراء بحلب، وطلبوا موافقتهم على ذلك، وخوفوهم من جهته، وذكروا ما تمتد أطماعه إليه، فوافقتهم.

وتحالفت معهم ، فسيروا رسلاً إلى ملك السلاجقة( في تركيا الحالية ) كيخسرو، فحلف لهم على ذلك.

واتفقوا كلهم وأرسلوا رسلاً ، إلى الملك الكامل، إلى مصر، وقالوا له: إننا قد اتفقنا كلنا، ونطلب منك أن لا تخرج من مصر، ولا تنزل إلى الشام.

فقال لهم: مبارك، ما دمتم قد اتفقتم، فما تطلبون من يميني، احلفوا أنتم أيضاً لي: أن لا تقصدوا بلادي، ولا تتعرضوا لشيء مما في يدي ، وأنا أوافقكم على ما تطلبون ، وتم ذلك .

- مواجهتها للمؤامرات الداخلية : وحاول البعض حياكة المؤامرات لعزل الملكة ضيفة ، فقد قام شهاب الدين صاحب شيزر، بإرسال رجلاً، إلى الملك الأشرف بدمشق ، وحدثه في أن يقصد حلب لاحتلالها ، وأنه يتعهد بأن يساعده بأمواله.

وأوهمه صاحب شيزر أن معظم الأمراء بحلب، يوافقونه على ذلك، وكذلك جماعة كبيرة من الحلبيين، يتابعونه، ويشايعونه، ويوافقونه على ذلك، واشترط على الملك الأشرف،لقاء ذلك ، أن يوليه قضاء حلب.

فمضى رسوله إلى الملك الأشرف، واجتمع ببعض خواصه، وذكر له الأمر الذي جاء فيه، فلم يستقبله ، وأجابه : لا يبدر مني غدر، في حق ذرية الملك الظاهر.

و وصل الخبر إلى الملكة ضيفة خاتون ، فتصرفت بحزم ،فأمرت بتوقيف رسول صاحب شيزر ، فقبض عليه وأصعد إلى القلعة، واستجوبته عن ذلك، فأخبرها بالحديث ، فحبس الرسول، وحلقت لحيته ( وكانت حلاقة اللحية كعقاب ، امرا مؤلما في ذلك الوقت ) .

و اعتقل صاحب شيزر ومن معه في المؤامرة ، وسجن بالقلعة ، وصودرت أمواله جميعها.

- مواجهتها للفرنجة والانتصار عليهم : واتفق أيضاً، في بداية ملكها ، تحرك الداوية ، وهم فرسان الهيكل من الفرنجة ، وأغاروا وساقوا أغناماً ومواشي كثيرة.

فخرج الملك المعظم ، قائد جيش حلب لمواجهتهم ، فانهزم الفرنجة هزيمة شنيعة، وقتل منهم خلق عظيم.

واستولى المسلمون على فارسهم وراجلهم، ولم ينج منهم إلا القليل، ودخلوا بالرؤوس والأسرى إلى حلب، وكان يوماً مشهوداً وحبسوا في القلعة، ثم أنزلوا إلى الخندق.

وفتت هذه الوقعة في أعضاد الداوية، بالساحل، ولم ينتعشوا بعدها، وكانوا قد استطالوا على المسلمين .

- مواجهتها محاولات غزو جيرانها لها : ومرض الملك الأشرف صاحب دمشق ،و مات سنة 635 هجري/ 1237 م . وأوصى بالملك لأخيه الملك الصالح .

فاستغل الملك الكامل الفرصة ، وخرج من مصر، وقصد دمشق لاحتلالها ، وأرسلت الملكة ضيفة من حلب نجدة إلى دمشق ، وكذلك سير الملك المجاهد صاحب حمص ، ولده المنصور إليها.

ونزل الملك الكامل على دمشق، وحاصرها مدة .

و تراجع الملك المظفر صاحب حماة ، عن الحلف الذي أقامه مع ملوك حماه وحلب ودمشق ، وانضم للملك الكامل، وأطلعه على جميع الأحوال، ووقع بينه وبين صاحب حمص اختلاف.

وطلب من صاحب حمص ان يعطيه مدينة السلمية، ليعود الى الحلف .

و نقول على سبيل الطرفة : لعل هذا هو سبب التنافس التاريخي بين أهل حمص وحماة .

أما دمشق ، فإن الملك الكامل ، حاصرها، حتى صالحه الملك الصالح، وتنازل له عن دمشق، وقرر الملك الكامل ، أن يتوجه لحلب لاحتلالها ، وعزل أخته ضيفة خاتون .

فاستدعت الملكة مقدم العسكر ، الملك المعظم ، وأقارب السلطان والأمراء، وحلفوا بالولاء للملك الناصر وللخاتون الملكة ، ثم حلف بعد ذلك أكابر البلد، ورؤساؤها ، ثم حلف الجنود والعامة.

واستعد الناس للحصار بالذخائر، والأطعمة، والحطب، ونقلت أحجار المناجيق إلى أبواب البلد، وتتابعت الرسل إلى الملك السلجوقي لطلب النجدة، فسير نجدة من أجود عساكره، وعرض عليهم أن يرسل غيرها، فاكتفوا بمن أرسله .

ولكن لحسن حظ ملكتنا ضيفة خاتون ، مرض الملك الكامل، ومات بدمشق، في قلعتها، في سنة 635 /1237 م ووصل خبر موته، فعمل له العزاء بحلب، وحضره، السلطان الملك الناصر، يومين.

و انقسمت مملكة الكامل بعد وفاته إلى دولتيْن ، الأولى في الشام والثانية في مصر .

- قيامها بالمصاهرات السياسية : أدركت الملكة ضيفة أهمية تحالفها مع السلطان السلجوقي ، فقررت توثيق هذا التحالف بالمصاهرة ، كما كانت العادة عبر العصور ، فتقرر أن تزوج الملك السلجوقي لحفيدتها أخت السلطان الملك الناصر، وأن يتزوج السلطان الملك الناصر، أخت ملك السلاجقة .

واستقر الأمر على ذلك، واجتمع الناس في دار السلطان، بالقلعة، وعُقد زواج ملك السلاجقة كيخسرو على الست غازية خاتون.

و يقول ابن العديم في كتاب زبدة الحلب في تاريخ حلب : وتوليت بنفسي عقد النكاح على مذهب الإمام أبى حنيفة رضي الله عنه لصغر الزوجة، على خمسين ألف دينار، ونثر الذهب، عند الفراغ من العقد.

ويكمل قائلا : سيرت من حلب، سنة 635 / 1237، إلى بلاد الروم ، لإبرام عقد الزواج بين ملك حلب الناصر واخت ملك السلاجقة ، ودخلنا في تلك الساعة إلى قيصرية، وأحضر قاضي البلدة، والشهود، وعقدت العقد ، على مهر قدره خمسين ألف دينار سلطانية.

وأظهر في ذلك اليوم من التجمل، ومصاغ الذهب، والفضة، ما لا يمكن وصفه، ونثرت الدنانير ، ووصلني ألف دينار.

ونثر في دار السلطان من الذهب، والدراهم، والثياب، والسكر، شيء كثير.

وضربت البشائر في دار السلطان، وأظهر من السرور والفرح، ما لا يوصف.

وسيرت، في الحال، بعض أصحابي إلى حلب، مبشراً بذلك كله، فضربت البشائر بحلب، وأفيضت الخلع على المبشر.

- خضوع بعض الملوك الأيوبيين لسلطانها : ويقول ابن العديم في كتاب زبدة الحلب : وكنت بالقاهرة، فاستحضرني الملك الصالح ، وقال لي: تقبل الأرض بين يدي الستر العالي، وتعرفها أنني مملوكها، وإنها عندي في محل الملك الكامل، وأنا أعرض نفسي لخدمتها، وامتثال أمرها فيما تأمر به، وحملني مثل هذا القول إلى السلطان الملك الناصر.

- توسعة مملكتها سلميا : واتفق أن الملك الحافظ ، وهو ملك ناحية قلعة جعبر ، قد مرض وأصيب بالشلل ، وخاف من خروج أولاده عليه ، فأرسل إلى أخته الملكة بحلب ، يطلب منها أن تقايضه بقلعة جعبر وبالس،بإقطاعية أخرى تعادلها فاتفق الأمر على أن تعوضه بإعزاز، وسيرت من حلب من تسلم قلعة جعبر.

ووصل الملك الحافظ إلى حلب، في هذا الشهر، وصعد في المحفة إلى القلعة، واجتمع بأخته الملكة، وسلمت إلى نوابه قلعة إعزاز .

- مواجهتها لطلائع الغزاة الخوارزمية والمغول :

في سنة 616 / 1219 م انطلق المغول بقيادة جنكيز خان قاصدين بلاد المشرق الإسلامي ، وهاجموا الدولة الخوارزمية ، وأقاموا المجازر في بخارى ، وسمرقند .

فأبيد الكثير من المسلمين ، وهدمت ألوف المساجد ، ودور العلم ، وتحولت حواضر الإسلام الزاهرة في تركستان وفارس إلى كتل من اللهب.

ثم مرض جنكيز خان وتوفي في سنة 624 / 1226 م ، مما دفع باقي الجيوش المغولية إلى الانسحاب ، وبعد أربع سنين عادوا لاستكمال غزوهم ، وأبادوا الدولة الخوارزمية ، وتوجهوا باتجاه السلاجقة في تركيا وباتجاه العراق وبلاد الشام .

و قد أشار كل من ابن العديم وابن خلدون إلى هجمات من أسموهم بالخوارزمية على مملكة حلب ، علما أن ابن العديم كان على قيد الحياة في تلك الفترة ، وتوفي بعدها بفترة قصيرة ، واعتقد أن الخوارزمية الذين يقصدونهم هم من المغول ، وليسوا من بقايا الدولة الخوارزمية في سمرقند ، فابن العديم يورد أسماء قادتهم ( صاروخان، وبردي خان، وكشلوخان ) وهي أسماء مغولية وليست كأسماء ملوك الدولة الخوارزمية كالسلطان علاء الدين شاه وغيره ، والذين سقطت دولتهم قبل ذلك التاريخ وأبيدت ، بيد المغول .

المهم : يروي ابن العديم قصة صد الملكة ضيفة خاتون والعسكر الحلبية لجحافل الغزاة الذين اسماهم الخوارزمية :

وصلت طلائع الغزاة، وأغاروا على بلد قلعة جعبر، ونهبوها، ولم يسلم منها إلا من كان خرج عنها إلى حلب وإلى منبج.

وخرج عسكر حلب للتصدي لهم برئاسة الملك المعظم تورانشاه، ولكن كان جيش حلب متفرقا ، بعضه في نجدة ملك السلاجقة ، وبعضهم في قلعة جعبر، وبعضهم متفرقون في القلاع، مثل شيزر، وحارم، وغيرهما.

وسار الغزاة في جمع عظيم، يزيد على اثني عشر ألفا، وانضم إليهم الأمير علي بن حديثة ، في جموعه من العربان، وكان معاديا لأهل حلب، لتقريبهم السلاجقة .

ونزلوا في وادي بزاعا، وعسكر حلب لا يزيدون عن ألف وخمسمائة فارس.

وتعبأ كل فريق لقتال صاحبه.

والتقى الفريقان، سنة 638 /1240، فصدمهم عسكر حلب على قلته، صدمة، تزحزحوا لها، ولكن المغول عادوا وتكاثروا عليهم.

و هجم على جيش الحلبية من وراءهم ، علي بن حديثة زعيم العربان وأحاط بهم، من جميع الجهات، فانهزموا ، والغزاة في أثرهم ، يقتلون، ويأسرون، فقبضوا على الملك المعظم، بعد أن ثبت في المعركة، وجرح جراحات مثخنة، وعلى أخيه نصرة الدين، وقبضوا على عامة الأمراء، ولم يسلم من العسكر إلا القليل.

وقتل في المعركة الملك الصالح، ابن الملك الأفضل، وابن الملك الزاهر، وكثيرين.

واحتاطت قرى حلب، وأرسلت الأوامر إلى قادة البلد بحفظ الأسوار، والأبواب ، ورحل أهل الحاضر، ومن كان خارج المدينة ، إلى المدينة، بما قدروا على نقله من أمتعتهم.

وبقي في البلد الأميران: شمس الدين لؤلؤ ، وعز الدين بن مجلى ، في جماعة ، لا تبلغ مائتي فارس ، يركبون، ويخرجون إلى ظاهر المدينة، يتعرفون أخبارهم، وبثوا سراياهم، في قرى حلب يشنون الغارة فيها، فبلغت خيلهم إلى إعزاز، وجبل سمعان .

و هاجم الغزاة أهل النواحي على غفلة، فلم يستطيعوا أن يهربوا بين أيديهم ، فنهبوا المواشي والأمتعة، والحريم، والصبيان، ما لا يحد ولا يوصف، وارتكبوا من الفاحشة مع حريم المسلمين، ما لم يفعله أحد .

ثم رحلوا إلى بزاعا، والباب، وقتلوا منهم جماعة ، ونهبوا ما كان فيها من المتاع والمواشي، وكان بعضهم، قد هرب إلى حلب، بما خف معه من الحرم، والمتاع، فسلم.

ثم رحلوا إلى منبج، وقد استعصم أهلها بالسور، وحصنوا المواضع التي لا سور لها، فهاجموهم بالسيوف .

وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً، وخربوا دورها، ونبشوها، فعثروا فيها على أموال عظيمة، وسبوا أولادهم ونساءهم، وجاهروا الله تعالى بالمعاصي في حرمهم.

والتجأت جماعة من النساء إلى المسجد الجامع، فدخلوا عليهن، وفحشوا ببعضهن في المسجد الجامع، وكانوا يأخذون المرأة، وعلى صدرها ولدها الرضيع، فيضربوا به الأرض، ويأخذون الأم ويمضون.

ووصل الخبر بهزيمة عسكر حلب إلى حمص ، إلى الملك المنصور ، وعنده من عسكره ، وعسكر دمشق ، مقدار ألف فارس، فتوجه لحلب بمن معه من العسكر ، ووصل إليها ، وخرج السلطان وأهل البلد، والتقوه ، ونزل في منطقة الهزازة.

وسيرت الملكة ضيفة خاتون رسولاً إلى الملك الصالح في دمشق، وطلبت منه نجدة من عسكره، فسير إليها النجدة .

وحين سمع الغزاة بتجمع العساكر بحلب، عادوا وتجمعوا بحران، وعزموا على العبور إلى جهة حلب، ومقابلة الحلبية قبل أن يكثر جمعهم .

وكان علي بن حديثة زعيم العربان ، قد انفصل عن المغول ، وقامت الملكة ضيفة وبحنكة سياسية بارعة بتقريب ظاهر بن غنام وهو الزعيم الآخر للعربان ، وزوجته بعض جواريها، وأقطعته أراضي ترضيه.

فسار الغزاة ووصلوا إلى الرقة، وعبروا الفرات، وبلغ خبرهم إلى حلب، فضرب الملك المنصور خيمته، شرقي حلب، على أرض النيرب وجبرين، وخرجت العساكر، بخيامها حوله.

ووصل الغزاة إلى دير حافر ثم إلى الجبول ، وكان العربان يناوشون المغول ، وتأخر لقاء العسكر للغزاة، لأنهم لم يكملوا استعدادهم .

ورحل المغول،إلى سرمين، ونهبوها، ورحلوا إلى معرة النعمان، ثم إلى كفر طاب، وأحرقوها ، وساروا إلى شيزر، والتجأ أهلها إلى المدينة التي تحت القلعة، واحتمت المدينة يوماً، ثم سقطت، ونهبوا ما أمكنهم نهبه.

و رماهم أهل القلعة الحجارة، فقتلوا منهم جماعة وافرة، فاتجهوا لحماة، وسارت العساكر الحلبية، لقصدهم.

فقصد الغزاة السلمية، ثم توجهوا إلى ناحية الرصافة .

و التقى جمع من العربان بالغزاة ، بقرب الرصافة، وقد تعبت خيول الغزاة ، وضعفت لشدة المسير ، وقلة الزاد والعلف، فألقى الغزاة أثقالهم كلها، والغنائم التي كانوا قد نهبوها من البلاد، وأطلقوا من كانوا أسروه من قرى حلب، وشيزر، وكفر طاب، وساروا طالبي الرقة مجدين في السير، واشتغل العرب، ومن كان معهم من الجند، بنهب ما ألقوه.

ووصل الغزاة ، إلى الفرات، مقابل الرقة .

وأما الملك المنصور وعسكر حلب، فإنهم وصلوا إلى صفين، وساروا سيرا سريعا، ليسبقوا الغزاة إلى الماء، ويحولوا بينهم وبين العبور إلى الرقة.

هزيمة الغزاة

والتقى الجيشان ، وانهزم الغزاة ، واستبيح عسكرهم، وهربوا، والعساكر في آثارهم، إلى أن حال الليل بينهم وبينهم، فعاد العسكر الحلبية ، ووصل الغزاة إلى حران، وأخذوا نساءهم، وهربوا.

وسار الحلبية خلف الغزاة إلى الخابور، والغزاة منهزمون، وألقوا أثقالهم، وبعض أولادهم، ونزلوا في طريقهم على الفرات، فجاءهم السيل في الليل، فأغرق منهم جمعاً كثيراً.

وزينت مدينة حلب أياماً لهذه البشرى.

وضربت البشائر، ووصلت أعلامهم وأسراهم، إلى حلب.

وصارت حران، وسروج، والرها، ورأس عين، والرقة، تحت سلطة الملكة ضيفة خاتون .

في هذه الأثناء توفي الملك الحافظ ابن الملك العادل، بقلعة اعزاز ، ونقل تابوته إلى مدينة حلب.

وخرج الملك الناصر وأعيان البلدة، وصلوا عليه، ودفن في الفردوس، في المكان الذي أنشأته أخته الملكة الخاتون.

وفاة ملكة حلب ضيفة خاتون

نتيجة لهذه الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد ، أصيبت الملكة ضيفة بالقرحة ، وقوي مرضها ، إلى أن توفيت سنة 640 /1242 م ، فكانت مدة عمرها حوالي تسع وخمسين سنة.

وأغلقت أبواب حلب ثلاثة أيام، ودفنت في الحجرة بالقلعة، تجاه الصفة، التي دفن فيها ولدها الملك العزيز رحمهما الله.

الملك الناصر حفيد الملكة يتولى الملك

وكان عمر حفيدها الملك الناصر ، نحو ثلاث عشرة سنة ، فأمر ونهى، وجلس في دار العدل.

وعلى أن يكون مستشاريه جمال الدولة إقبال، والوزير القفطي.

كان ملكا جيداً، حليما جداً، وجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة، فلم يعد يقطع يد ، أو يعدم اللصوص والقتلة وقاطعي الطريق ، فتجاوز هؤلاء الحد في الفساد، وانقطعت الطرق في أيامه، وكان المسافر لا يستطيع السفر إلا برفقة الحرس .

وكثر اللصوص ، وكانوا يكسرون أبواب الدور، ومع ذلك إذا حضر المجرم القاتل بين يديه يقول له : الحي خير من الميت ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار السرقة.

و يقول اليافعي : كانت للشعراء دولة في أيامه ، لأنه كان يقول الشعر ، ويروى له أشعار كثيرة منها قوله:

فو الله لو قطعتَ قلـبـى تـأسـفـاً وجرعتنى كاساتِ ودمعى دماً صرفاً

لمـا زادني إلا هـوى ومـحـبة ولاتخذت روحي سواك لها إلـفـا

وكان يطبخ في مطبخه كل يوم أربعمائة رأس غنم، وكانت سماطاته وتجمله في الغاية القصوى.

وجلس في دار العدل، في كل يوم اثنين وخميس، لترفع إليه المظالم.

وأضاف إلى دولة (حلب) بلاد الجزيرة وحران والرها والرقة ورأس عين وحمص، ثم دمشق سنة 648/ 1250م، وأطاعه صاحب الموصل وماردين.

هاجم مصر فدخلها عنوة، بعد قتال، ثم ظهرت عليه طائفة من عسكرها فانهزم إلى الشام، واستقر في دمشق.

وصفا له الملك نحو عشرة أعوام، حتى كانت غارة المغول واستيلاؤهم على البلاد، فذهبوا به إلى (هولاكو) في توريز، فأكرمه أول الأمر، ثم قتله.

المراجع :

- زبدة الحلب في تاريخ حلب ، لابن العديم .

- الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة ، لابن شداد.

- الأعلام ، للزركلي.

- الدارس في تاريخ المدارس ، للنعيمي.

- عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، لبدر الدين العيني.

- المختصر في أخبار البشر، لأبو الفداء.

- تاريخ الإسلام ، للذهبي.

- تاريخ ابن خلدون .

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة