مغارة الأربعين التاريخية

في منطقة الفرافرة قرب القلعة و أمام مبنى دار بلدية حلب التاريخي ( مبنى  مديرية الهجرة و الجوازات السابق ) كانت هناك مغارة تاريخية أثرية ذات مدلول ديني سميت بمغارة الأربعين , ذكرها مؤرخ حلب الشيخ كامل الغزي في كتابه " نهر الذهب في تاريخ حلب " عندما عدد آثار محلة الفرافرة .

أعتقد انه لأهمية هذه المغارة سمي أحد أبواب سور حلب بباب الأربعين ( و هو باب مندثر ذكره الغزي نقلا عن تاريخ ابن الملا و ذكره الطباخ نقلا عن تاريخ المرادي ) و قد سمي الباب بباب الأربعين تيمناً بهذه المغارة .

والمقصود هنا هو سور حلب القديم الذي كان في الفترة  البيزنطية السابقة للفترة الإسلامية يتقاطع مع القلعة، عندما كانت القلعة تشكل أقصى الطرف الشرقي للمدينة قبل توسع المدينة شرقا و زوال هذا السور و بناء الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين سوراً جديداً شرقي المدينة يربط ما بين عدة أبواب جديدة بناها هي باب الحديد و باب الأحمر و باب النيرب وصولاً إلى باب المقام .
تاريخ بناء التكية

بالعودة إلى مبنى تكية و مسجد قرقلر وجدت أن حجارة المبنى بحجمها وطريقة بنائها حديثة نسبياً، وربما تعود إلى العهد العثماني الأخير .

ووجدت عدة نقوش حجرية أقدمها مؤرخ عام 1007 هجري و يعادل 1598 ميلادي و هو مكتوب باللغة التركية العثمانية القديمة بالأحرف العربية ، و استطعت أن أفهم منها بصعوبة و بشكل غير حرفي وجود مزار لقبر دفين ذو شأن في هذا المبنى، يعظم هذا النقش الحجري ذكراه، و يؤكد وجوب السعي لزيارة مزاره دون ذكر اسم هذا الدفين .
ووجدت نقشاً آخر بالعربية مؤرخ بتاريخ لاحق للنقش الأول في عام  1164 هجري و يعادل 1750 ميلادي فيه دعاء لله سبحانه و تعالى .

و أخيرا وجدت نقشاً هو الأحدث مؤرخ في عام 1316 هجري و يعادل 1898 ميلادي فيه أبيات شعرية تذكر مقاما للأربعين مجربٌ الدعاء فيه لنيل الآمال .

يبدو أن هذا المبنى تعرض للهدم عدة مرات منذ بنائه بسبب الزلازل و غيرها، و كان من يبنيه يحرص على إعادة وضع الأحجار القديمة المنقوشة بالكلمات في الجدران المبنية حديثاً و كان آخر بناء له في عام 1898 منذ مائة و اثنا عشر عاماً  .

تكية قرقلر في كتب الباحثين الحديثة

عدت إلى كتاب " الآثار الإسلامية و التاريخية بحلب"  للدكتور أسعد طلس الصادر عام 1956 فوجدته يذكر تكية "قرقلر" و يصفها بمقر منحوت في الصخر ينزل إليه بدرج .

أعتقد ان " طلس " يشير إلى المغارة أسفل المبنى لأن المبنى الحالي مبني بالأحجار على وجه الأرض و ليس منحوتاً بالصخر.

يذكر د .طلس أن التكية مكونة من  قسمين قبو سفلي،  فوقه قسم ثان متصل به ( دون أن يذكر وجود درج ) و القسم العلوي مسقوف بقو يذكر أيضا انه يوجد في صدر التكية ( محراب من الحجر ) والى جانب الغرفة المسقوفة بقبة هناك غرفة لسكن شيخ التكية .

أي أن التكية مؤلفة فقط من قبو أعلاه غرفة واحدة مسقوفة بقبة و فيها محراب، أما الغرف المجاورة لهذا القسم فهي للسكن .

التكية متصلة بقناة حلب التي توصل للقلعة

كما يذكر طلس عبارة يجدر الإشارة إليها أن ( مقر التكية موصول بقناة حلب ) .

و قناة حلب التي ذكرها د . طلس هي قناة حيلان التي تتفرع أسفل أحياء حلب القديمة لتؤمن المياه للقلعة و للبيوت وبقية المرافق مشكلة سراديب متشعبة يعتقد الحلبيون إنها أنفاق سرية توصل للقلعة.

بحثاً عن المغارة التاريخية

دخلت المبنى باحثاً عن المغارة التي كتب المؤرخون و الباحثون أن التكية و المسجد بني فوقها فلم أجد لها آثاراً واضحة ، تحت المبنى هناك قبو مرصوفة جدرانه بالحجارة القديمة.بة عالية  .
أعتقد أنه وبسبب طبيعة الأرض الكلسية الحوارية الهشة في محيط القلعة أن المغارة قد تم تدعيم جدرانها بالحجارة منذ زمن طويل و زالت معالمها و بقي جدار واحد فقط من جدران المغارة غير مرصوف بالحجارة و لكن تم ترميمه بمواد بناء حديثة  .

بحثاً عن المحراب

صعدت للطابق أعلى القبو إلى الغرفة المسقوفة بقبة، و بحثت في الجدار الواقع في الجهة الجنوبية القبلية منها و التي يفترض أن يوجد فيه المحراب متوجهاً نحو القبلة ، فلم أجد إلا جداراً فيه نافذتان كبيرتان بقيت على أطرافها الحجرية أماكن توضع مفصلات درفتي  النافذة  .
استبعدت لهذا السبب أن تكون محراباً، و لكن لفت نظري وجود فتحة في الجدار مختلفة عن شكل النوافذ تشكل حجرة صغيرة لا منفذ لها و متجهة باتجاه الجنوب يبرز بسببها الجدار الخارجي للبناء كما هي عادة المحراب عندما يبرز بسببه الجدار الخارجي للبناء.
أعتقد تبعاً لما ذكرت أن هذه الفتحة هي المحراب المذكور .

تاريخ بناء تكية "قرقلر "

بعد الفتح الاسلامي لحلب  ( في تاريخ لم استطع تحديده بدقة لعدم توفر مراجع توثق اول عملية بناء  ) بُني مكان للعبادة على مغارة الأربعين، وعندما بدأ عهد الحكم العثماني في المنطقة سمي المكان باللغة العثمانية التركية القديمة " تكية قرقلر ".

و جاء في شرح كلمة" قرقلر" في موسوعة حلب المقارنة للاسدي أنها تأتي بمعنى  "الأربعينات " أي جمع أربعين ، فالأربعين بالتركية " قرق " و اللازمة " لار " تأتي للجمع.

و نوه الاسدي أن اللغة التركية لا تجمع إلا" قرقلر" هذه ، و رأى أنها تشير إلى أوتاد الأرض الأولياء الأربعين.

الأمر الثابت و الواضح كما ذكر الغزي صراحة أن تكية تقام فيها الشعائر الدينية  بنيت فوق المغارة ، و يبدو أنها بنيت هناك للصفة الدينية للمغارة .

أما مؤرخ حلب الشيخ راغب الطباخ في كتابه " إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء " فقد أورد ذكر المبنى في سياق ترجمة الشيخ  " محمد النوري البغدادي " ذاكراً انه في القرن الحادي عشر الهجري ( يعادل القرن السادس عشر الميلادي ) نزل هذا الشيخ  بمسجد الأربعين و تصدر لتسليك إحدى الطرق الصوفية .

و عاد الطباخ ليذكر في أحداث عام 1150 هجري/ 1737 ميلادي  ليذكر مسجد الاربعين و يقول الطباخ الذي كتب كتابه عام 1923 ان في زمن كتابة الكتاب عرف المكان بزاوية " القرقلر " يسكنها مشايخ الطريقة "النوربخشية" و هي طريقة وصفها الطباخ بطريقة " علية نورية " و هي إحدى شعب الطريقة النقشبندية .

هل  المبنى مسجد أم  تكية أم زاوية أم جامع

يشار إلى أن الخلاف بين ذكر الغزي للمبنى كتكية و ذكر الطباخ للمبنى كمسجد ثم كزاوية يمكن فهمه على أساس أن التكايا كانت تعتبر مساجد تجري فيها الصلوات الخمسة و فيها قسم يسمى" التكية" لإقامة المتعبدين و إطعامهم من الصدقات ، أما" الزاوية " فهي قسم من أقسام المسجد تقام فيه الأذكار الصوفية و يعتزل فيه المتصوفة فترة أربعين يوما عن شهوات الحياة الدنيا.

بالتالي يمكن اعتبار المبنى تكية و مسجداً و زاوية في آن معا ، و لا أعتقد أنه يمكن اعتباره جامعاً لان للجامع عادة مئذنة لا توجد في هذا المبنى  .

أصل تسمية الأربعين

أورد الطباخ أن المسجد سمي بمسجد الأربعين لأنه كان فيه أربعون عابداً لله و ذكر أنهم كانوا من المحدثين الباحثين عن الأسانيد.

أما ابن شداد الذي فسر في كتابه " الأعلاق الخطيرة " سبب تسمية باب الأربعين بأنه خرج منه أربعون ألف مجاهد ولم يعد منهم أحد، فأعتقد أن هذا تفسير مستبعد لأنه كما هو واضح تاريخياً، و كما ذكر الغزي  أن الباب سمي على اسم المغارة التي كانت قريبة منه ، و لم تسمى التكية و مغارتها على اسم الباب .

الجدير بالذكر أن هناك عدة مغارات في بلاد الشام تسمى مغارة الأربعين ، منها مغارة الأربعين في مدينة أريحا بفلسطين ، ومغارة الأربعين في جبل الأربعين أحد جبال قاسيون في دمشق ، و مغارة الأربعين  في جبل الأربعين الذي تقوم عليه مدينة أريحا التابعة لمحافظة إدلب، و مغارة جبل الأربعين في اللاذقية .

بالبحث عن سبب تكرر ذكر تسمية " الأربعين " مع التأكيد أننا لسنا هنا في معرض البحث الديني الفقهي، و إنما في معرض البحث عن تفسير لوجود هذه التسمية " الأربعين " لعدة مغارات واقعة في بلاد الشام، وجدت عدة أحاديث منسوبة ( مع اختلاف في درجات إسنادها )  للرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ذكرها ابن عساكر و الطبراني و السيوطي وغيرهم ، و قد روت بروايات مختلفة عن أربعين رجلاً من أولياء الله الصالحين يكونون ببلاد الشام يسمون بـ "الأبدال ".

ربما تكون هذه المغارات منسوبة إلى اعتقاد بوجود هؤلاء الأولياء الأربعين .

خاصة أن الأسدي أورد كما جاء أعلاه في تفسير كلمة قرقلر ( أنها تشير إلى أوتاد الأرض الأولياء الأربعين ) و ذكر ذلك أيضا د .أسعد طلس في كتابه الآثار الإسلامية و التاريخية بحلب عندما أورد تكية قرقلر ( سميت بذلك لأنها مقر الأربعين وليا ) .

واقع المبنى الحالي

لاحظت أن المبنى لم يرمم بطريقة أثرية احترافية أكاديمية بل تمت إضافة بعض الأحجار و الأعمدة  الحديثة لتزيين  جدرانه و تم تلبيس القبة من الداخل بقرميد أحمر تزييني و يبدو إن أرضيته الخشبية قد انهارت و تم استبدالها بأرضية حديثة .

اعتقد أن المبنى بحاجة ماسة  لنزع ما أضيف له من مواد بناء حديثة و إعادة ترميمه  بطريقة أكاديمية تعيده إلى وضعه التاريخي المهم .

و أعتقد أن الحائز الحالي للمبنى و بنية حسنة اعتقد انه يحسن صنعاً بترميمه وفق خبرات عامة، لا علاقة لها بأصول الترميم الأثري ، الذي يحرص فيه المرمم المحترف على إعادة الحال إلى وضعه الأصلي بدقة تامة، و يحرص على عدم إدخال عناصر بناء جديدة أو حديثة .

الحائز الحالي لمبنى تكية و مسجد و زاوية "قرقلر" أنفق أموالاً طائلة لترميم المبنى بطريقة لم يدرك أنها خاطئة ، معتقداً أنه بذلك يحسن من وضع هذا الأثر التاريخي .

و هي مناسبة مهمة لدعوة حائزي المباني الأثرية إلى عدم ترميم مبانيهم باستعمال مواد حديثة من رخام و مواد ديكور و غيرها ،لا يدركون أنها تسيء بشكل بالغ للمباني الأثرية التي اعتقد يقيناً أنهم مثلنا حريصون على سلامتها .

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة