في رؤوسنا .. عقول أم صخور

كلما دخلت في نقاش حول أي موضوع كان، مع من حولي، كنت اصطدم بعدم جدوى النقاش ، و تحجر عقل المتلقي ، و ربما تحجر عقلي أيضا.

و تساءلت كثيرا هل نحن غير قادرين على الحوار و تبادل الأفكار، و هل جفت عقولنا حتى باتت عاجزة عن المرونة و الحركة، و صارت صخرا أصم، و ما هو سبب هذا الجفاف و التحجر.

و بينما كنت أقدم استمارة انتساب، إلى إحدى الجمعيات الخيرية ، لنخبة من الراغبين في التطوع للعمل الخيري - أدناهم مستوى يحمل شهادة جامعية - كانوا يملؤون البيانات العادية فورا ، مثل الاسم و المهنة و التولد،

و عندما يصلون إلى البند الذي يطلب فيه شرح المساعدات المعنوية و المادية التي يمكن أن يقدموها للجمعية الخيرية ، كانوا جميعا يقفون عاجزين عن الكتابة .

واحد وأربعون استمارة ، وقف أصحابها عاجزين عن تعبئة هذا البند ، و كانوا يلتفتون إلي طالبين أن ألقنهم ما يكتبون ، و عندما كنت اطلب منهم كتابة ما يرغبون فعلا في تقديمه ، كان جوابهم لا نعرف ما هو الممكن تقديمه ، قل لنا ، و نحن سنكتب .

و في تجربة أخرى مع مجموعة من طلاب الجامعة المتحمسين و المتطوعين للعمل الخيري ، و الذين تعودوا أن ينفذوا ما يقرره و يطلبه منهم رئيس المتطوعين الشباب و دون تردد .

اقترحت عليهم أن يغيروا اسلوب عملهم ، و أن يشكلوا فيما بينهم مجموعات عمل ، تقترح و تبدع النشاط التطوعي الذي تراه مناسبا ، و تقوم هذه المجموعة بكاملها بتنفيذه .

و بذلك ينتقل عملهم من مرحلة تنفيذ الأوامر ، إلى مرحلة التفكير و التخيل و الإبداع ، ثم تنفيذ هذه الفكرة التي صنعوها بأنفسهم، بدلا من الأفكار التي تقدم لهم جاهزة .

و كنت اعتقد أنهم سيرحبون بهذه المبادرة ، التي تخلصهم من التبعية ، ليكونوا هم أصحاب القرار ، و تعهدت لهم أن اعمل بكل طاقاتي للمساعدة في تنفيذ أفكارهم ، و محاربة من يقف بوجه هذه الأفكار الخيرية .

و انتظرت .... و فوجئت .. بالسلبية التامة .. و رفض هذه الفكرة تماما ... و النظر تجاهي بريبة و حذر ... و عندما سألت و حللت مع البعض منهم سبب هذا الموقف ، قالوا لي : إننا إن فكرنا و خططنا بأنفسنا ، ثم نفذنا ، تحملنا مسؤولية ما فعلنا ، أما إن خطط غيرنا و نفذنا نحن فلا مسؤولية علينا إن فشلت الخطة و لم تحقق الهدف ، و هذا أريح لرؤوسنا بكثير .

إن كان هذا هو تفكير من تطوع مجانا لعمل خيري و بكامل إرادته ، فلا عتب على من اجبر على تنفيذ عمل وظيفي مثلا .

و حاولت أن اعرف و أتبين سبب هذا الجمود الفكري الحجري في أذهاننا دون جدوى ، إلى أن قرأت صدفة كتابا مطبوعا في عام 1967 ، كتبه الدكتور أنور عبد الملك تحت عنوان ( دراسات في الثقافة الوطنية ) منشورات دار الطليعة بيروت ، يحلل فيه كيف خطط البريطانيون للقضاء على الفكر و الثقافة في مصر زمن الانتداب ، و اشرف على تنفيذ مخططهم اللورد كرومر حاكم مصر الفعلي وقتها ، و مستشاره دانلوب لشؤون التعليم ، و جاء فيه ما يجيب على جميع تساؤلاتي :

( واستند دانلوب إلى خاصية معينة من خصائص العقلية الشرقية ، ألا و هي تقديس النصوص المكتوبة ، و أوصى المفتشين و نظار المدارس بتنمية الذاكرة و الحفظ دون تنمية التفكير الناقد الإبداعي الخلاق .

و رأى أن الضمان الوحيد لاستعباد مصر هو ضرب صميم الفكر المصري، بحيث يصبح عاجزا عن التطور و الإبداع ، و معتمدا على غيره في الحركة ، و لكي يتحقق هذا الهدف لا بد أن تتوجه سياسة التعليم نحو الحفظ دون المناقشة ، و نسخ المراجع دون تحليلها ، و تكوين الرأي فيها .

و احترام المكتوب دون فحصه و التحاور معه ، فالتلميذ الممتاز هو الذي يحفظ اكبر قدر من النصوص .

و التاريخ عبارة عن أسماء معارك و ملوك و تواريخ صماء، دون إيراد أي تفسير لأسباب حدوث هذه المعارك و الانتصارات و الهزائم و دون افساح المجال لتحليل و مناقشة اسباب النصر او الهزيمة .

أما العلوم فهي نظريات متتالية ، دون عرض طريقة تخطي العلماء لنظرية قديمة و تطويرها ، لتظهر نظرية جديدة ..

الحفظ و لا شيء إلا الحفظ و الامتحان كله حول قدرتك على الحفظ، و الترديد كالببغاء )

اعتقد أن هذه السطور تلخص واقع عقولنا الحالي ، و تبين أسباب جمودنا الفكري و العقلي ، و عجزنا عن الإبداع و الحراك الفكري، و إن خمسين عاما من التعليم بهذه الطريقة لا بد أن تواجه بخطة مدروسة ، لا تقل فترة تنفيذها عن خمسين عاما أخرى ، و لكن هل يستطيع من درب على الحفظ و الحفظ فقط ، أن يضع خطة تعليمية طموحة ، تعتمد على التحليل لا الحفظ ، لا اعتقد ذلك.

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة