من مارمارون إلى ميشيل عون.

جاء في كتاب ( تاريخ الموارنة ) لبطرس ضو أن مارمارون - كلمة ( مار ) هي كلمة سريانية تعني السيد - ولد في قرية مارونية في عام 370 م ، أي قبل حوالي ما يزيد على ألف وستمائة سنة .و مارونية هي قرية تقع بين انطاكية والسويدية في لواء اسكندرون.

تمركز مار مارون في المنطقة المحيطة بمدينة قورش شمال سوريا وأسس رهبانيته هناك .و قورش هو اسم فارسي والاسم اليوناني للمدينة هو ( سايروس ) ، وتقع مابين عفرين واعزاز الحالية ، والمنطقة المحيطة بقورش التي كانت تابعة لها هي منطقة كبيرة تمتد حتى جبل سمعان الحالي .

و يذكر كتاب ( تاريخ لبنان ) لفيليب حتي أن : إسلوب رهبنة مارمارون هو العيش في العراء ليلاً ونهاراً ، والحياة على عمود مرتفع عن الأرض والصلاة والتعبد وقوفاً ، كأعلى مثل عن التضحية وتقديم الذات .

و قد تابع القديس الشهير سمعان العمودي الذي توفي عام 459 م بعد وفاة مارمارون إسلوب هذه الرهبنة عندما أمضى تنسكه الشهير أعلى العمود الكائن في كنيسة سمعان.

هناك خلاف بين المؤرخين على تاريخ وفاة مار مارون فمنهم من يقول أنه توفي عام 410 م وآخرون يرون وفاته حوالي عام 433 م .

و إذا كان تاريخ ولادته عام 370 م ، وتوفي عام 410 م فيكون قد توفي عن عمر أربعين عاما وهو سن صغير لقديس بهذه الشهرة ، وعلى الأغلب أنه توفي عن عمر أكبر يناهز الستين عاماً، ربما يكون حوالي عام 433 م وفقا للرأي الثاني .

و هناك خلاف أيضا على مكان دفن مار مارون فبينما يقول المطران يوسف الدبس في كتابه ( تاريخ سورية ) ان مارمارون دفن في منطقة الرستن على شاطىء نهر العاصي في منطقة غير محددة بدقة .

ترى الأبحاث الحديثة استنادا إلى كتاب ( تاريخ أصفياء الله ) لتيودور يطس المكتوب عام 440 ميلادي أنه دفن قرب حلب إثر تعرضه لمرض بسيط مفاجئ لكنه أودى بحياته بسرعة .

فقد ذكر هذا الكتاب ان مار مارون اختار أن يعيش في العراء واختار قمة فيها معبد وثني بنى عليها كوخا صغيرا من الجلود قلّ أن يلجأ اليه ، واستطاع ان يشفي المرضى بالدعاء لهم ، وعند وفاته قام سكان بلدة مجاورة ببناء ضريح فخم له دون تحديد المكان الدقيق لهذا الضريح .

و لكن أجمع الباحثون أنه تنسك في أحد قمم جبل قورش ( جبل سمعان ) وبالبحث عن القمة التي توجد في هذا الجبل التي يوجد عليها معبد وثني قديم ، استنتج الباحثون انها تلة قلعة كالوتا التي تقع قرب قرية براد ( تبعد 30 كيلومتر عن حلب ) وتوجد على التلة بقايا كنيسة مبنية فوق بقايا غير واضحة المعالم لهيكل وثني ، وافترض الباحثون أن الأهالي بنوا الكنيسة في المكان الذي عاش فيه مارمارون .

ووفقا لكتاب أصفياء الله فإن أهالي القرية القريبة من تلك الكنيسة ، والتي تسمى حاليا ( براد ) وكانت تسمى ( كفر بردا ) وتعني بالسريانية القرية الباردة ، حملوا الجثمان الى كنيستهم وبنوا فيها ضريحاً فخماً لجثمانه .

و كنيستهم هذه عرفت بكنيسة جوليانوس نسبة الى المعلم المعمار السوري جوليانوس ( باللغة السريانية جوليانوس هو ايليا ) ويقدر تاريخ بناءها بحوالي عام 400 م ، وقد أضيفت لها لاحقا كنيسة صغيرة ملحقة يفصل بينهما قنطرة حجرية كانت تبنى عادة أمام ضرائح الابطال ،و يعتقد الباحثون أن الضريح هو أمام هذه القنطرة.

أصبحت براد مركزاً رئيسياً للمسيحية وبنيت على أرضها ثلاث كنائس وديران وبرج للمتوحدين وعمود نسكي.

والانقسام التاريخي بين الطوائف المسيحية حول طبيعة المسيح جرى عام 451 م في مجمع خلقدونيا بعد وفاة مارمارون ، وبذلك يكون هذا القديس لجميع الطوائف المسيحية الحالية باعتبار أنه توفي قبل وجود هذه الطوائف أساسا .

في هذا الخلاف الفقهي بين رجال الدين المسيحي حول طبيعة المسيح ، اختار تلاميذ مارمارون وقد سميوا ( الموارنة ) أن المسيح ذو طبيعتين : طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية وله مشيئتين مشيئة إلهية ومشيئة إنسانية .

أما الطائفة الأخرى والتي سميت بالسريان اليعاقبة ( التي سميت لاحقا بالارثوذكس ) فقد شكلت حينها غالبية سكان سورية واختارت فكرة أن للمسيح طبيعة واحدة فقط.

و في عام 517 م حدثت مذبحة للمارونيين بفعل حاكم انطاكية قتل فيها ثلاثمئة وخمسين راهباً وصعد بعدها الرهبان السريان المارونيين وأتباعهم إلى الجبال الممتدة ما بين مناطق حلب وصولاً لمناطق حماه ، بدءاً من عينتاب وقورش ومنبج ومعرة النعمان وصولاً حتى شيزر.

و ذكر بطرس ضو في كتابه تاريخ الموارنة : دعم ملوك بيزنطة في البداية الموارنة ، كما ذكر ابي الفداء في تاريخه أن الامبراطور مرقيانوس قام ببناء دير أسماه دير مارمارون تخليداً لذكرى هذا القديس .

لم يستطع الباحثون حتى هذا التاريخ تحديد موقع الدير الذي بناه الامبراطور بشكل قطعي ، فمنهم من قال انه في بلدة أرمناز ، ومنهم من يعتقد أن ذلك الدير في قلعة المضيق في أفامية قرب حماة الحالية كما جاء في تاريخ لبنان لفيليب حتي .

و عندما احتل الفرس بزعامة كسرى سوريا عام 614 م - ونكاية بالروم البيزنطيين - قام الفرس باضطهاد الموارنة حلفاء البيزنطيين ، الذين لجأوا إلى جبال لبنان هرباً من تنكيل الفرس بهم ، فهجروا ضفاف العاصي وتوجه معظمهم إلى جبال لبنان طلباً للحماية .

و عند بداية الفتح الاسلامي لبلاد الشام نزح الموارنه شمالاً باتجاه مرعش ( جبل اللكام ).

و في عام 694 م اعتنق الامبراطور البيزنطي جوستنيان الثاني مذهباً دينياً جديداً يخالف مذهب الموارنة وينص أن للمسيح مشيئة واحدة إلهية فقط ، وليست له مشيئتين إلهية وإنسانية معاً كما يعتنق الموارنة .

قرر الإمبراطور البيزنطي اضطهاد الموارنة والقبض على بطريركهم وهدم كنائسهم ، وفعلاً هُدم دير الموارنة في قلعة المضيق وقُتل خمسمائة راهب فيه ، ولكن عندما وصلت الحملة البيزنطية الى جبال لبنان تم هزمها وقتل قائداها ودفنا في منطقة الكورة .

اتبع الأمويون في بداية الدولة الأموية سياسة حكيمة في اجتذاب المسيحيين العرب وخاصة من مملكة جرجومة وعاصمتها مرعش المؤيدة للموارنة .

ذكر البلاذري في فتوح البلدان انه في عام 708 م في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان اتفق الجراجمة مع المسلمين كي يكونوا عونا لهم بمواجهة الروم البيزنطيين في شمال سوريا ، لما عُرف عنهم من بسالة وإقدام وعلى أن لا يدفعوا الجزية وتترك لهم حريتهم الدينية وتؤخذ منهم الضرائب التي تؤخذ من المسلمين .

و شمل هذا الصلح بشروطه هذه جميع الموارنة من جبل سمعان في حلب مرورا بحمص وحماه وحتى جبال لبنان.

و يقول الاب اغناطيوس ديك في كتابه الشرق المسيحي ( انعزل المارونيون فلم يتبعوا الكنيسة الارثوذكسية ولم يتبعوا الكنيسة الكاثوليكية البابوية في روما ، واستمر الامر حتى القرن السادس عشر ميلادي حيث أسس لهم البابا معهداً خاصاً سمي بالمعهد الماروني ، وانتقل المارونيون جميعاً الى المذهب الكاثوليكي ) .

 استناداً الى كتاب ( تاريخ الكنيسة) للأرشمندريت رفائيل فإن الموارنة عام 1898 م كانوا متوزعين وبالنسبة الأكبر في منطقة بكركي بعدد يبلغ حوالي اثنان وسبعون ألف ماروني ، وتليها منطقة بيروت بعدد سبع وستون ألفا ، وتليها منطقة بعلبك بعدد أربع وأربعين ألف ، تليها صيدا وصور بعدد إثنان وأربعين ألف ، ثم قبرص بحوالي سبع وثلاثون ألف ، ثم دمشق بعدد ثمان وعشرون ألف ، تليها طرابلس بعدد ثلاث وعشرون ألف ، وأخيرا حلب بعدد يبلغ حوالي ثمانية آلاف ماروني .

و كان التعداد الإجمالي لسكان حلب عام 1898 م زمن تلك الاحصائية هو حوالي مائة الف نسمة.

و بذلك يكون أتباع الطائفة المارونية بحلب في ذلك الزمن يمثلون حوالي ثمانية بالمئة من السكان وهي نسبة كبيرة لا يستهان بها ، خاصة اذا أضفنا اليها بقية الطوائف المسيحية التي تبلغ عشرة طوائف عدا الطائفة المارونية.

و تعود سجلات المعمودية الباقية في الطائفة المارونية في حلب إلى عام 1489م ، كما توجد لديها سجلات زواج منتظمة منذ عام 1666م وحتى الآن .

و يقيم بطريرك الموارنة في بكركي ( وبكركي تعني بالسريانية مكان حفظ الكتب والسجلات ) ، وتذكر مجلة المحبة العدد رقم 2 الصادرة عام 1898 عن جمعية التعليم المسيحي في بيروت أن مقر البطريركية كان بيتاً لآل الخازن ، وفي عام 1720 م وهبوه لرهبنة مار أشعيا المارونية ، الذين شيدوا فيه كنيسة ، وعام 1751 م قامت سيدة حلبية اسمها مرتا هندية ( عائلة هندية عائلة عريقة ومعروفة في حلب ) اشترت هذه السيدة الكنيسة من الرهبنة بمبلغ ثلاثة الاف وخمسمائة قرش عثماني وهو مبلغ طائل ذلك الزمن ، وأقامت فيه رهبنة للفتيات ، ولكن ألغيت هذه الرهبنة لاحقاً عام 1771 م ، وقام البطريرك بتحويل الدير الى مركز شتوي إضافة الى المركز الصيفي في دير الديمان .

و حيثما تجد الموارنة ، تجد دائما كنيسة ومدرسة ، جاء في مجلة المحبة المذكورة أعلاه ان أبرشية حلب في ذلك الوقت عام 1898 م كانت تضم سبعة آلاف وثمانمائة وعشرين نسمة ولهم ثمانية كنائس وأربعة مدارس ، إحداها للفتيات .

و تذكر تلك المجلة أن تعداد الموارنة الإجمالي في سورية ولبنان وقبرص كان يبلغ ثلاثمائة وثلاث وعشرون ألف نسمة عام 1898 م ، ولهم حوالي ثمانمائة كنيسة ، وثلاثمائة وثمانون مدرسة ، يدرس فيها حوالي اثنا عشر ألف تلميذ .

و بذلك تقدم الموارنة علمياً واعتمدت عليهم السلطنة العثمانية .

و في عام 1872 م استطاع الموارنة الحصول على فرمان سلطاني بانشاء كاتدرائية مارونية في حلب ،و في عام 1898 م افتتح الطابق الارضي من الكاتدرائية في منطقة وراء العمارة في حي الجديدة .

وفي الثلاثينيات نُصب تمثال تذكاري للمطران جرمانوس فرحات ( الذي كان قد عُين عام 1725م أسقفاً للطائفة المارونية بحلب) في الساحة التي تقع أمام الكاتدرائية ، وحضر حفل إزاحة الستار عن التمثال حينها رئيس الجمهورية السورية ورئيس الوزراء ، وسميت الساحة منذ ذلك الزمن بساحة المطران فرحات.‏

إن تاريخ مار مارون السوري الحلبي الأرض والهوية والولادة والتبشير والوفاة ،و تاريخ الطائفة المارونية يؤكد التلاحم التاريخي ما بين السوريين واللبنانيين على مختلف الأصعدة ويؤكد تاريخية العلاقة الطبيعية الأخوية الأسرية ، السائدة بين أفراد الشعب الواحد ، الموجود في دولتين .
 

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة