ما لم يذكر عن قصة بناء جامع ومدرسة الخسروية بحلب

خسرو باشا هو من مواليد عام 1480م واسمه هو تصحيف لاسم "كسرى"، تلفظ الواو بالتركية فاء فيقال خسرو باشا أو خسرف باشا، والد خسرو باشا في المراجع العثمانية هو الوزير فرهاد باشا، وهو من البوسنة الهرسك في الأصل، والدة فرهاد باشا تركية عثمانية هي ابنة السلطان العثماني بيازيد الثاني، أي أن جد خسرو باشا هو السلطان بيازيد الثاني، تسلم فرهاد باشا والياً على عدة أماكن  أيضاً، قد يكون منها حلب فالمذكور بالسالنامة أن فرهاد باشا تولاها عام 1556م لمدة عامين، بعد وفاة ابنه خسرو باشا، توفي فرهاد باشا عام 1568م وربما يكون هذا الفرهاد هو والد خسرو باشا. ( من الملفت للنظر أن احدى وقفيات الخسروية تذكر أن اسم والد الواقف خسرو باشا هو سنان ولا يوجد ذكر أو ترجمة لمن هو سنان هذا في أي مرجع عثماني تركي أوعربي)

تعين خسرو باشا والياً على حلب عام 1531م زمن السلطان سليمان القانوني، فقرر بناء أول مبنى عام جديد بني في العهد العثماني في حلب، ويقال أنه كلف المعماري الشهير الأرمني الأصل سنان بتصميم المبنى والإشراف على بنائه، فكان مبنى جامع وتكية ومدرسة  الخسروية، وخصص لها وقف عظيم في حدود/300/ عقار  منها: سوقين كبيرين اشتراهم القنصل ماركوبولي وبنى عليهم خان الشونة لاحقاً، وخان ابنه قورت بك بن خسرو باشا، والحمام المعروفة بحمام النحاسين وكانت تعرف قديماً بحمام الست، والقاسارية الكائنة أمام الحمام المعروفة بحمام البيلوني وغيرها من عقارات.

كانت عادة السلاطين العثمانيين تعيين ولاة مهمتهم جباية الضرائب بقسوة من السكان عبر عدة طرق منها : فرض الغرامات والعقوبات المالية، ومصادرة تركة من لا وارث له، ومصادرة الأملاك بأي حجة كانت.

وكان هؤلاء الولاة يجبون الأموال الطائلة فيرسلون منها للسلطان ويحتفظون ببعضها لهم، فإن اكتشف السلطان أنهم كنزوا الكثير كان يقوم بعزلهم ومصادرة أموالهم، وغالبا يقوم بإعدامهم، وكان المخرج القانوني لهؤلاء الولاة بالحفاظ على بعض الثروة التي ينهبوها من سكان الولايات بإنشاء مبنى ذو صبغة دينية وبأن يوقفوا عليه أعداد كبيرة من العقارات التي يشتروها أو يستولوا عليها من عقارات هذه الولايات، وأن يخصصوا جزء كبير من ريع هذه العقارات لذريتهم من بعدهم تحت اسم الاوقاف الذرية، وقسم آخر من ريع العقارات يخصص للانفاق على هذا المبنى ذو الصبغة الدينية تحت اسم الأوقاف الخيرية، لم يكن السلطان العثماني يجرؤ على اثارة غضب السكان بمصادرة عقارات مخصص ريع قسم منها  للانفاق على مباني دينية، ولم تكن قواعد الشرع الاسلامي تسمح بمصادرة أموال الوقف، فكان هذا المخرج هو الوسيلة الوحيدة أمام هؤلاء الولاة للحفاظ على أموال يورثونها لأولادهم بعد عزلهم وإعدامهم.

قام خسرو باشا خلال ولايته القصيرة بحلب بتملك 300 عقار بطرق "مختلفة"، وهي فعلياً عقارات عائدة لأهالي حلب، وقرر تنفيذ الطريقة المذكورة أعلاه فبنى جامع وتكية ومدرسة الخسروية من الأموال التي جباها بقسوة من أهالي حلب، وأوقف هذه العقارات لها.

جاء في كتاب "در الحبب" كما نقل منه الطباخ : فلما تولى الوزارة ( يقصد خسرو باشا ) أمره ( يقصد أنه أمر وكيله فروخ ابن عبد المنان الرومي الخسروي) بإنشاء جامع وتكية بها فقام بإنشائها بمشارفة معمار رومي نصراني ( يُعتقد أنه سنان باشا )، ولكن بعد إيذاء المعمارية بالضرب وغيره، وإدخال عدة أوقاف فيها، وفي أعمدة التكية المذكورة عمودان كانا للمدرسة المقدمية الكائنة بزقاق سلار بحلب فأخذهما ومتوليها إذ ذاك محمد جلبي ابن المرعشي ولم ينتطح فيها عنزان.

( المقصود أن مولاه فروخ هذا أجبر المعماريين الحلبيين على العمل بالبناء مجاناً بعد ضربهم وتعذيبهم، كما استولى على عدة عقارات وقفية وضمها للمبنى وهي عقارات لا يجوز الاستيلاء عليها، كما قام بسرقة أعمدة حجرية كانت في مدرسة أثرية وقفية أخرى هي المقدمية ووضعها في مبنى الخسروية ولم يستطع معارضته متولي وقف تلك المدرسة) 

ولكي يضمن خسرو باشا دخلاً غير قابل للمصادرة لأولاده من بعده - وفقاً للطريقة التي نوهنا عنها- جاء في وقفية الخسروية التي نسخها الغزي: أن يُنفق "يومياً" من أموال الوقفية خمسون قطعة من الفضة السليمانية لأولاد وذرية الواقف خسرو باشا، وأن يكون متولي الوقف من ذريته ويصرف له يوميا 12 قطعة فضية سليمانية وهو مبلغ كبير للانفاق اليومي في ذلك الوقت.

لكن شاءت الأقدار أن تتوفى قبله زوجته في حلب، وأن يتوفى قبله أيضاً ابنه قورت بك في حلب مخلفاً طفلاً صغيراً اسمه مصطفى جلبي الذي ضاع ذكره، ودفنا في التكية. 

كما توفي من تبقى من ورثته وهو ابن أخيه محمد باشا بن مصطفى باشا اللالا عام 1574م  في حلب ودفن في التكية ( الأمر الملفت أن اسم مصطفى باشا اللالا الذي ورد في وقفية الخسروية جاء كما نقله الغزي باسم "مصطفى باشا بن سنان أخي خسرو باشا" و لكن والد خسرو باشا هو فرهاد باشا وفق المراجع التركية، ويبدو أن الغزي أو ناسخ المخطوطة أخطأ في اسم والد مصطفى باشا )

توفي خسرو باشا عام 1541م عن عمر ناهز 61 سنة بعدما عزله السلطان سليمان القانوني من جميع مناصبه وتوفي بعدها خلال اسبوع !!!! ، ودفن في جامع الخسروية في البوسنة وكان بناء الخسروية بحلب لم ينته بعد. واستغرق انتهاء بناؤه حتى عام 1544م.

يروي الكامل صلاح الدين الكوراني الحلبي في مصنفه الحادثة الطريفة التالية عن بناء الجامع فقال: حكى لي الشيخ زين المؤذن بجامع الخسروية بحلب، وكان رجلاً صالحاً، وكنت إذ ذاك خطيباً به بعد أن قلت له : إني أرى جامع الخسروية مشرقاً مضيئاً يشرح الصدر بالنسبة إلى غيره من الجوامع، فقال لي: أما تعلم سبب ذلك؟ فقلت : الله أعلم، قال: سبب هذا الإشراق ببركة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا ( صاحب تكية الشيخ بكر الشهيرة بحلب )، قلت: وكيف ذلك؟ 

فقال : إن الشيخ ( يقصد ابو بكر الوفائي ) لما كان في عالم السياحة ( يقصد أنه كان مجذوباً سواحاً) حين الشروع في عمارة هذا الجامع كان يذهب مع العجلة ( يقصد العربة التي تحمل الأحجار) إلى الجبل ويأتي راكبا على العجلة وعليها الحجارة المقطوعة لأجل بناء الجامع المذكور، إلى أن يأتي بها إلى الجامع ويحث البنّائين على العمارة ويقول لهم : أسرعوا إلى العمارة حتى يأتوا أصحابنا ويعيطوا فوق السطوح، فلما فرغت العمارة صار المتولي عليها يطلب مؤذناً حسن الصوت صالحاً متديناً، فدلوه علي فأرسل أناسا يطلبونني إليه، وكنت إذ ذاك عند الشيخ رضي‌ الله ‌عنه  ( يقصد الوفائي) ولم يظفر بي أحد من رسل المتولي، فقال لي الشيخ : قومي روحي وعيطي فوق السطوح طلبوكي لا تقعدي ( اشتهر الشيخ الوفائي أنه كان يخاطب الذكور والإناث بصيغة المؤنث)، وأخرجني من عنده، فلما خرجت رأيت الطلب ورائي وقيل لي : اذهب إلى متولي الجامع فإنه طالبك، فجئت إليه فجعلني مؤذناً به فعلمت أن الشيخ أشار إلي بذلك ( أي أن الشيخ الوفائي شعر دون أن يخبره أحد أن هناك من يبحث عن المؤذن فأمره بالذهاب وأنه تنبأ منذ بدء عملية البناء أن أحد أصحابه سيكون مؤذناً له، ويروي الحلبيون الكثير من هذه الأمثلة عن الشيخ الوفائي الذي يعتبرونه ولياً من أولياء الله الصالحين). 

بعد انقراض ذرية خسرو باشا عاد المبنى للحلبيين أصحابه الحقيقين ودافعي كلفة بنائه وباني حجارته بعرقهم وكدهم، كما عادت معظم عقاراته الوقفية ال 300 لأصحابها وبقي منها عدة عقارات كبيرة معروفة محيطة به كخان الشونة وخان قورت بك.

تقلب عدة نظار على ما تبقى من وقف الخسروية منهم الشيخ محمد علي الكحيل المتوفي سنة 1886م ، ومنهم ناظر الوقف محمد أنيس الخسروي، ومنهم أيضاً الشيخ رضا مفتي الألاي الدمشقي الملقب ابن الزعيم عام 1911م.

تعرض مبنى الخسروية للإهمال الطويل وتم اتخاذه ثكنات للجنود العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى فخربت أقسام منه واسودت جدرانه من الدخان، قرر مدير الأوقاف يحيى الكيالي العالم إعادة تنظيف المدرسة الخسروية وترميمها وفي عام 1921م تقرر أن تكون تكية الخسروية مدرسة للتعليم الشرعي، وبعدما تم افتتاحها أُنشئت مكتبة عظيمة بها نقلت إليها مكتبة الجامع الأموي الكبير، كما قدم عدة وجهاء من المدينة الكتب المخطوطة من مكاتبهم الخاصة لإنشاء مكتبة مدرسة الخسرفية، منهم عبد القادر أفندي ابن مراد أفندي الجابري الذي وقف لها 600 مجلد نقلهم الشيخ الطباخ بنفسه إليها كما أورد في كتابه، ومنهم مرعي باشا الملاح الذي وقف 120 مجلدا وغيرهم من وجهاء، وكان كل كتاب يهدى لمكتبة الخسرفية يختم عليه وقف فلان الفلاني لمدرسة الخسروية حتى لا يتم التصرف به.

 نقلت مخطوطات المكتبة الخسروية عام 1929م إلى مكتبة المدرسة الشرفية التي تقع في مدخل سوق استانبول وراء الجامع الأموي، والتي كان آخر المشرفين عليها الشيخ محمد السردار رحمه الله، ثم نقل بعدها قسم منها لمكتبة الأسد بدمشق، وعندما أُنشئت المكتبة الوقفية تحت الجامع الكبير عام 2006م نقلت اليها ما تبقى من كتب ومخطوطات المدرسة الشرفية، لكن مع احتراق المكتبة الوقفية خلال الحرب الأخيرة قبل افتتاحها الرسمي ضاع قسم كبير من هذه الكتب للأسف، وقيل أن عدد كبير من مخطوطاتها تم نقله إلى تركيا بعدما انضم القائمون على المكتبة إلى صفوف المعارضة.

في عام 1959م أعيد تنظيم التعليم الشرعي في مدينة حلب فأطلق على المدرسة الخسروية اسم الثانوية الشرعية، واستمر العمل فيها كأهم مدرسة شرعية بحلب إلى أن تعرض المبنى بكامله لتفجير هائل بواسطة نفق قام به الارهابييون عام  2014م  فزال معظم المبنى للأسف.

بقلم المحامي علاء السيد

موضوع ذات صلة : 

كتاب " دراسة مقارنة بين جامعي الخسروفية بحلب والخسرفية بالبوسنة " - بشار رفاعي

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة