وجدان 2 : سعد الله الجابري

بعد أن فهمت القليل عن جوهر فن النحت كفن مظهر لوجدانية الجمال في " وجدان 1 "، عدت لفناننا الكبير يوسف عقيل - وهو حارس من حراس الغار- وسألته : 

ماذا عن تمثال سعد الله الجابري ؟ المنصوب في جانب متطرف من ساحة سعد الله الجابري وسط حلب.

ابتسم يوسف وقال : قل لي ماذا ترى فيه؟

اعتبرت نفسي خبيرا بعد الدرس الأول وقلت : في التمثال ملامح وقفة ارستقراطية كانت تميز قسمات سعد الله الجابري الجميلة التي يظهر فيها العرق الشركسي من جهة أمه.

قال: لنبدأ أولاً بقاعدة التمثال، لاحظ النسب الفنية المتوازنة بدقة، مع خطوطها الرشيقة، كان يمكن للفنان النحات جعلها قاعدة مربعة ولا داع لبذل كل هذا الجهد ، ولكنه كان يعمل بوجدان يأبى أن لا يتقن عمله ويترك في كل جزء منه شيء من الجمال.

قلت: من هو هذا النحات ؟ وهل ينتمي الى ذات المدرسة الفنية لجاك وردة موضوع درسنا الوجداني الأول ؟

أجابني : لم يكن لهذا النحات أي مدرسة فنية، بل انه لم يدرس الفن اطلاقا، هو الحجار الحلبي ومعلم البناء والتبليط "طه شنن".

سألت: وما هي اعماله الأخرى ؟

عاد يوسف لابتسامته وقال : ليس له إلا هذا التمثال، وبنى قبله سبيل الماء في المدخل الشرقي لحديقة السبيل وعليه منحوتة رأس الأسد وذاك السبيل ابداع معماري بحد ذاته. وهذا التمثال تم نحته في الخمسينيات ولكنه بقي حبيس الغرف المظلمة حتى تقرر نصبه في منتصف التسعينيات في هذا الجانب المتطرف من ساحة سعد الله الجابري مع أن الساحة سميت على اسم صاحب التمثال.

صمت يوسف وأحسست أن وراء هذا التمثال ومن نحته قصة، فلماذا بقي حبيسا طوال أربعين عاما؟  فهل كان هناك في الخمسينيات من مانع التمثال ومن نحته بناء على معتقدات متطرفة لا تسمح بنحت التماثيل وترفض حتى وضع الصور؟ 

تابع يوسف وكانه سمع ما يدور برأسي : في حلب الخمسينات لم يكن هناك فكر متطرف يمنع التماثيل وكنت تجد في كل بيت شعبي صورة فاطمة المغربية وهي صورة افتراضية لسيدة ذات جمال عربي وكان الرجال يتغزلون بالصورة وتعد معيارا للجمال النسائي .

عارضته قائلا : مادام النحات طه شنن كان حجارا ومن بيئة شعبية وعلى الاغلب لم يكن متعلما فلا بد أن محيطه عارض عمله هذا، وان النقلة النوعية التي قام بها هذا الحجار الحلبي الذي يؤمن محيطه بحرمانية التماثيل وانتقاله للنحت بهذا الجمال والابداع الآخاذ هو أمر يستحق البحث بحد ذاته.

اتصلت بالحاج محمود شنن ( 72 عاما ) وهو ابن النحات، كانت الساعة الثامنة صباحا ، أجابني مباشرة فاعتذرت عن اتصالي الباكر ولكنني قلت له : لابد أنك من جماعتنا جماعة أهل أول اللي بفيقو بكير. أجابني ضاحكا : بالطبع انا كذلك.

روى لي الحاج محمود قصة أبوه الحاج طه والتمثال فقال : "نحن من سكان الجلوم وورث أبي مهنة نحت الحجر وتبليطه عن والده الذي أخذه العثمانيون إلى حرب السفر برلك ولم يعد، وعندما قرر رئيس بلدية حلب المهندس مجد الدين الجابري توسعة حديقة السبيل عام 1950م طلب من والدي نحت وبناء سبيل الماء فيه فأعجب بما أنجزه، وعاد إليه طالبا نحت تمثال لقريبه الزعيم الوطني سعد الله الجابري المتوفى حديثا حينها، لم يكن طه شنن قد التقى سعد الله الجابري يوما ومن أصعب الامور على النحات أن يعطي انطباعا عن شخصية المنحوت لتمثاله من وحي خياله، تقرر أن يتم العمل في مبنى المكتبة الوطنية التي كان مديرها حينذاك الشاعر عمر أبو ريشة، قام الفنان الحلبي ألفريد بخاش برسم لوحة لوجه سعد الله الجابري وجلس طه شنن أمامها لأربعة أشهر لينجز في النهاية تمثاله من الحجر الأصفر الحلبي القاسي وعندما انتهى من عمله فوجئ بعدم منحه الجائزة المالية التي كان قد تم وعده بها وعندما نشرت صورة التمثال في الجرائد وإلى جانبه صورة النحات هاجم أفراد من حزب ديني متطرف طه شنن وأوسعوه ضربا لقيامه بالمحرمات، ومن حينها لم يعد لنحت التماثيل" .

استمع يوسف للحديث وهز رأسه قائلا : "لاحظ قسمات وجه التمثال الناطقة ولاحظ نظرة عينين سعد الله في تمثاله، من أصعب الامور جعل العيون الحجرية تنطق، ولاحظ تماهي الطربوش مع عظام الجمجمة، من المعجز قيام هذا الحجار البسيط  بنحت تمثال معبر انطلاقا من رسم مسطح، لابد أن الله منحه موهبة عظيمة".

قلت في نفسي : كم شعر هذا الحجار البسيط الأمي بوجوب اتقان عمله، وكم وضع فيه من مشاعر وجدانية،  لإظهاره تمثال يعكس الجمال الذي كان يحيط بالنحات في حواري حلب القديمة، الوجدان الجميل لا بد أن ينضح جمالا، والروح القبيحة لا بد أن تعكس القبح المحيط بها. 

وأخيرا  اسأل نفسي أين ذهب ذلك الجمال ؟ وكيف تحول قبحا في الوجدان والروح والمحيط والعمل

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة