موت وخراب ديار ... حلب بعد الزلزال والإدارة السلطانية العثمانية للكوارث

في صيف عام 1822م ضرب حلب الزلزال الكبير الذي دمر قسما كبيرا من عمران المدينة، وقتل عدد أكبر من سكانها ، وقع الزلزال في مساء يوم  28 ذي القعدة 1237 هجري تعادل  16 آب عام 1822ميلادي، كان السلطان المتولي زمام السلطنة العثمانية هو السلطان محمود الثاني ابن السلطان عبد الحميد الأول ( تولى السلطنة من عام 1808 حتى 1839م ) وهو السلطان الذي اشتهر بعدها بقيامه بالقضاء التام على الجيش الانكشاري العثماني سيئ الصيت.

كانت حلب قد خرجت قبلها بقليل من ثورتها على الوالي العثماني خورشيد باشا عام 1820م نتيجة جوره الشديد ( وثق المطران ابراهيم كوبليان يوميات هذه الثورة، وتم تحقيق هذا المخطوط وصدر بكتاب بعنوان "ثورة الحلبيين على الوالي خورشيد باشا العثماني 1819-1820م") ، وقامت جيوش السلطنة بحصار المدينة المنكوبة وقصفها بالمدافع وإخضاعها وإعدام زعماء الأهالي وهم الذين كانوا الثوار على الوالي.

تم تولية ولاية حلب للوالي العثماني مظفر باشا ( استمرت ولايته أربع سنوات من عام 1820 حتى 1824م)، لم يتسن للمدينة المنكوبة لملمة جراحها من القصف العثماني حتى ضربها الزلزال عام 1822م، توقع الأهالي دعماً سلطانياً لجبر مصيبتهم ومساعدتهم على إعادة الإعمار، لكنهم فوجؤا بالمزيد من فرض الضرائب والأتاوات وبمنعهم من إعادة إعمار ما تهدم من بيوتهم ومعابدهم.

كان الهم الأكبر للولاة العثمانيين من قبل ومن بعد - كما ورد معنا في مقالتنا " ما لم يذكر عن قصة بناء جامع ومدرسة الخسروية بحلب " وفي مقالتنا "طرق إدارة شؤون الولايات العثمانية خلال عهد حكم السلطان عبد الحميد الثاني - ولاية حلب أنموذجاً"  -  جباية الأموال لاستيفاء ما قد دفعوه للباب العالي سلفاً للوصول لمنصب الوالي، وللاستمرار في الدفع تجنباً للعزل ومصادرة الأموال والموت، كان الوالي في العادة يعين قاضياً عثمانياً تركياً لا يتقن العربية في معظم الأحيان على الرغم أنه يُفترض أن يحكم وفق قواعد الشرع الإسلامي ولكن هذا الأمر لم يكن يحدث في هذا النوع من القضايا، كان القاضي العثماني يعتمد في تسيير أمور القضاء العادية اليومية على معاونيين محليين حلبيين يقضون بين الناس وتصدر القرارات صورياً باسم القاضي التركي.

نعتمد في مقالنا هذا لدراسة سلوك الإدارة العثمانية المتمثلة بالوالي العثماني والقاضي الشرعي تجاه إدارة كارثة عامة بحجم زلزال عام 1822م الكبير على دراسة أجراها الأرشمندريت الحلبي الأب اغناطيوس ديك بعنوان "الطوائف المسيحيّة في حلب: الموارنة" نقل فيها عن وثيقة رصدها الأب فردينان توتل وذكرها في سلسلة كتبه الشهيرة "وثائق تاريخية عن حلب" في الجزء المعنون "أخبار الموارنة وما يليهم" هذه الوثيقة عبارة عن رسالة مؤرخة في 16 نيسان 1823 (تعادل 4 /8/ 1238هجري ) أرسلها مطران الموارنة بحلب جرمانوس حوّا للقنصل الإنكليزي بعد وقوع الزلزال الكبير بعام واحد جاء فيها :

"إنه في الزلزلة قد خرب بعض أطراف كنيستنا من الخارج ( يقصد سور كنيسة مار الياس التي تحولت لكتدرائية الموارنة والتي تقع حالياً في صدر ساحة فرحات بمحلة الجديدة، وقد تم إعادة ترميمها مؤخراً بعد الأضرار الجسيمة التي أصابتها خلال الحرب ) فأرسل الباشا ( الباشا هو الوالي العثماني على حلب مظفر باشا ) والقاضي كشفوا كنيستنا ( أي أرسلوا لجنة للكشف على الأضرار التي أصابت الكنيسة بسبب الزلزال ) فما رأوا أننا عمّرنا شيء بالكلية ( لم تشاهد اللجنة أي ترميم من أي نوع وكان الترميم يحتاج إلى سلسلة معقدة من الموافقات الحكومية)، ومع ذلك مسكوا قسيس من كهنتنا وحبسوه وعرّوه من ثيابه وأخرجوه ليشنقوه (قاموا بالقبض على أحد الكهنة وأذلوه وهددوا بإعدامه كنوع من أنواع الترهيب قصد الابتزاز)، وأخذوا جرم من كنيستنا ثمانية عشر ألف وخمسمائة غرش ( أي أنهم فرضوا على طائفة الموارنة أتاوة كغرامة مالية طائلة تجمع من أموال الكنيسة وأموال أفراد الطائفة المارونية)، مع كوننا لم عمرنا شيء ( أي أن التهديد بالإعدام وفرض الأتاوة بدون أي سبب فلم يتم أي ترميم لسور الكنيسة). 

وأوقاف  الكنيسة خربت أيضاً ( أي أن العقارات التي يوقف ريعها لمصلحة الكنيسة مهدمة بالزلزال ولا ريع لها يدعم صندوق الكنيسة ) والكنيسة مديونة وعاجزة عن عمارها ( لا يوجد في صندوق الكنيسة أموال لإعادة إعمارها عساها إن تعمرت تدر دخلاً )  فباقية معطلة وملزومين أن نعطي الخساير والصلبان عن الخراب ( أي أنه يجب على الكنيسة تعويض من تضررت عقاراتهم الوقفية من الزلزال ) وما بقي للكنيسة مدخول من الأوقاف. فإن كانت دولتكم العالية الشأن تكرم على كنيستنا وأوقافها بشيء لأجل العمار ( يطلب المعونة المالية من الحكومة الإنكليزية )  فيبقى لسعادتكم ودولتكم الثواب عند الله".

هذه الرسالة من موارنة حلب تلقي الضوء على سلوك الحكومة العثمانية مع كافة رعاياها عند الأزمات، فهي تضيق الخناق عليهم وتشجع فساد الولاة والقضاة، بحيث تجعل الرعايا يلقون بأنفسهم بين أيدي الجهات الخارجية المعادية لأوطانهم. 

لم تنتعش سياسة الامتيازات الأجنبية التي منحها السلاطين للدول الأجنبية إلا بسبب سلوك هؤلاء السلاطين على غير ما يثار عادة من أسباب يزعم فيها البعض أن فراغ خزينة الدولة العثمانية وخسارتها الحروب أمام الدول الأوروبية هي السبب الوحيد لمنح هذه الامتيازات التي تعتبر السبب الأهم في انهيار الدولة العثمانية لاحقاً.

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة