وجدان 3 : فن العمارة بحلب - العزيزية بناية يوسف موصللي

سألت حارس الغار صديقي يوسف عقيل: هل الفن والجمال يتجلى في النحت والرسم فقط؟ 

قال: أم الفنون وخلاصتها "العمارة"، في العمارة يجتمع النحت والرسم والموسيقا، لتشكيل وحدة متناغمة من الجمال الثلاثي الأبعاد.

قلت: حلب أم العمارة الحجرية وزخارف واجهات أبنيتها آيات في الإبداع، لنقرأ معاً يا يوسف واجهة حلبية حجرية مزخرفة ونتعرف على بواطن الجمال فيها، ليكن بحثنا اليوم في أبنية العزيزية .

في الطريق إلى بناء عتيق كثيف زخرفة الواجهة وهو من أهم أبنية حي العزيزية تاريخياً، استمهلته لألقي نظرة على واجهة قديمة لا مميز فيها، وتساءلت : لماذا لم يقم بانيها بزخرفتها أسوة بما جاورها.

تأملها يوسف ملياً وقال: هذه الواجهة أهم من جميع الواجهات التي تجاورها هذه هي واجهة الوجدان، تأملها قليلاً بعمق يا علاء.

تأملتها وقلت في نفسي : في ظاهرها لا شيء مميز، فهي بلا زخارف بارزة، فماذا رأى فيها يوسف؟ 

أشار إلى الكورنيش الحجري لقاعدة الشرفة ، انتبهت إليه: يا الله كم هو ناعم وجميل ..كأنني كنت أراه للمرة الأولى.

قال : من يختار مثل هذه النعومة والدقة والجمال لكورنيش بلكونته لا بد أن يختار ذات الجمال لبقية عناصر واجهة مبناه.

تأملت التختيمات التي تعلو النوافذ، كل تختيمة منها، غاية في الذوق والنعومة والبساطة، كأن الحجار النحات الذي صنعها يرسم منمنمات بريشة فنان. 

قال لي : أترى ما يجمع بين زخارف نجفات أعلى النوافذ والكورنيشات  الدائرية ؟ 

رأيت حينها الكورنيشة الحجرية ذات الطراز المملوكي التي تشابه أصابع البيانو، والتي رأيتها أول مرة في ضريح المملوكي أوغل بك في منطقة المقامات وعمرها يزيد على الستمائة عام.

ولكن هنا في هذه البناية نجد حجمها يتفاوت بين صغيرة ومجسمة كبيرة . 

قال يوسف : أدرك الفنان الذي صمم الواجهة أن الكورنيش القريب من الشارع يجب أن يكون صغيراً لقربه من المشاهد، وكلما ازداد ارتفاعاً زاده حجماً لأنه أضحى أكثر بعداً عن الناظر ويجب زيادة حجمه ليحقق الانسجام في الرؤية للمشاهد.

وضع معلم سلطان الذي بنى هذه الواجهة هذه الكورنيشة "البيانو" كخلفية في جميع زخارف الواجهة وبشكل رشيق يحقق التناغم "الهارموني" الجامع لذات الروح الزخرفية للواجهة، ولكنه أضاف إليه في كل زخرفة تطريزاً رشيقاً مختلفاً، فتارة التطريز هو كشراشيب البرادي فوق النوافذ، وتارة هو كأوراق النباتات وأزهارها في البلكون، وتارة هو كتيجان الاسقف أعلى دائر سطح المبنى. 

قلت : لا بد أن صاحب البناء أطلق يد الحجار الذي صمم وبنى له الواجهة ليحقق له التوازن الذي يملكه صاحب المبنى في شخصيته، فابتعد عن التباهي بإظهار الزخارف وابرازها كبيرة الحجم كما فعل جواره، لإظهار ثرائهم الذي لا بد أنه كان محدثاً. وهذا هو الفرق بين العريق والمحدث.

لم يكتفي الخواجة يوسف بجمال وذوق واجهة البناء بل وضع على سقف غرفة صالونه الرئيسي سقفاً خشبياً فريد الطراز أبدع فيه أيضاُ النجار الفنان الحلبي. ولم ينس جمال أرض الحوش مكتفياُ بإطلالة البلكون،فترك مساحة إلى جانب البناء عالية الأسوار لتكون مثالاً عن أرض الحوش وزرع فيها شجرة النارنج الحلبية.

صاحب هذا المبنى الخواجة يوسف موصللي سكن في القرن التاسع عشر في حارة التوميات في قلب حي الجديدة القديم، في حوش حلبي تقليدي وعاش مشاعر الإقامة في بيت له طرازعمارة "الحوش التقليدي الحلبي " الذي يرجع لمئات السنوات، ثم انتقل للإقامة في مانشستر بانكلترا عام 1872م غرض التجارة بالقطن السوري وعايش طرز البناء الأوروبية، ثم عاد منها لحلب للسكن في حي الكتاب الذي أحدثه المسيحيون بعد زلزال حلب الكبير عام 1822م كضاحية سكنية خارج البلد على ضفاف النهر وبين البساتين واختاروا له طراز البناء الخشبي تجنباً لمخاطر الزلازل، أخيراً عاد مطلع القرن العشرين ليبني بنايته الحجرية هذه في حي العزيزية ويتمها عام 1909م . 

قلت ليوسف: لا بد أن "معلم سلطان" - وهو لقب المعمار الحلبي الذي بلغ مرتبة عالية في مهنته- كان مسلطناً عندما بنى هذه الواجهة وتعامل معها كما يتعامل سلاطين الطرب الحلبيين مع مقاماتهم الموسيقية بوجدانية ينضح منها الجمال والذوق، ولا بد أن صاحب البناء كان مثله مسلطناً وجدانياً أيضاً فلم يفرض عليه ما يعكر الوحي الفني الجميل الذي أُوحي إليه عندما صممها، بل ربما شاركه الوحي.

بقلم : المحامي علاء السيد
طباعة