المرتاد في تاريخ حلب وبغداد - حوادث حلب اليومية 1771 - 1805م - يوسف الحلبي - رسالة للباحث فوّاز محمود الفوّاز

كتب محمد تركي الربيعو عن كتاب «حوادث حلب اليومية: المرتاد في تاريخ حلب وبغداد». فقال :

هي حوادث دوّنها التاجر المسيحي الحلبي يوسف بن ديمتري بن جرجس الخوري عبود الحلبي، وشملت الفترة الممتدة بين عامي 1771 ـ 1805. وحققها المؤرخ السوري فواز محمود الفواز.

ووفقا لبعض التراجم، فإن يوسف الحلبي، هو تاجر ثري ذو منزلة واعتبار عند طائفته، وعند المجتمع الحلبي عامة. 

فقد ورد أن والي حلب يوسف باشا العظم حبس مطران الروم أحد عشر يوما، وقد تعذر إطلاق سراحه لولا «مضيت الفقير وكفلت ما تبقى من الجرم على الطائفة وحررت تمسك على نفسي حتى طالعته». 

وكما يبدو من خلال يومياته، فإن التجارة لم تشغله عن ممارسة ما كان يبدو أنه هواية وشغف، أي الكتابة، وهي الأمر الذي توارثه لاحقا ابنه المؤلف الشماس ميخائيل، الذي كتب عددا من المقالات التاريخية، بالأسلوب ذاته الذي سار عليه والده في المرتاد. 

وبالتطرق لمخطوطه، الذي كتبه بلغة عامية، فمما يلاحظ هنا، حرص المؤلف على تقديم صورة واسعة عن الأحوال السياسية والاقتصادية والصحية التي كانت تعيشها المدينة في تلك الفترة.

كما يسرد بتفصيل مسالكَ ولاتها وسيرهم بين الناس عدلا أو جورا، ثم يروي بالتفصيل ذاته أيضا، أخبار الطاعون الذي أصاب حلب في أيامه، وأحوال الناس في سني المجاعة والقحط، إضافة إلى ذكره لأسعار المواد الغذائية وارتفاعها وانخفاضها.

كما أنه يقدم تفصيلا عن الإنكشاريين في المدينة وأصول هذه القوات، وكيف تشكّلت داخل المدينة. 

أضف إلى ذلك، تخصيص يوسف الحلبي، قسما كبيرا من مخطوطته لأحوال النصارى في حلب، والخلاف الذي جرى في طائفة الروم الكاثوليك بين المطران جرمانوس آدم ونائبه الخوري ميخائيل جربوع حول قضية الأكمام الطقسية.

وبالحديث عن الأوضاع السياسية، نجد أن موقع حلب القريب من مركز السلطنة كان سببا في عدم ظهور قوى محلية على غرار أسرة آل العظم وبقية القوى التي ظهرت في بلاد الشام الجنوبية. 

ومع ذلك يشير يوسف من خلال يومياته إلى استثناء في هذا السياق، من خلال حديثه عن إبراهيم باشا قطار آغاسي. 

إذ كان إبراهيم قد عمل في خدمة جلبي أفندي نقيب الأشراف في حلب، فاستفاد من الحجم الكبير لأعمال سيده المالية، وقام بتنمية ثروته الخاصة ليستخدمها في تركيز نفوذه في حلب. 

وقد أخذت ثروته ومكانته تزداد غنى وثقافة، ما مكّنه لاحقا من زيارة العاصمة، وإقناع السلطان بإصدار فرمان يقضي بعزل والي حلب كوسا مصطفى باشا.

ومن ثم غدا واليا على حلب، بعد لقائه الوزير الأعظم في أنطاكية وهو في طريقه إلى مصر لمجابهة الحملة الفرنسية، كما تولى بعدها منصب والي دمشق وعكا بعد وفاة الوالي الجزار ثم، وبطلب منه، عينت الدولة ابنه محمد واليا على حلب. 

بيد أن فرمانا سرعان ما صدر بحقه، يقضي بعزله عن ولاية دمشق، وعزل ابنه عن ولاية حلب.

أما على المستوى الاقتصادي، فيشير الحلبي إلى الموجات المتلاحقة من القحط التي أصابت المدينة، وقد بلغت حدتها درجة أن ترى «الفقرا في الأسواق أجواقا أجواقا ينبحون مثل الكلاب من الجوع». كما أدّت هذه الأوضاع إٍلى أن يبطل الحكم على السارق من الجوع فلا يعاقب على فعلته، بل يكتفي بأن «يُحكم على المسروق له أن يكتب وثيقة بالذي سرقه» ليعيده عندما تتيسر الأمور.

وتحتل الأحداث التي وقعت في المجتمع المسيحي في حلب جزءا كبيرا يبلغ حوالي الثلث من صفحات المرتاد. 

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مكانة يوسف الحلبي، سواء على مستوى المدينة، أو داخل الأوساط المسيحية في المدينة، قد مكّنته من تقديم معلومات تفصيلية حول عدد من القضايا والخلافات التي كانت المدينة تشهدها بين عدد من الطوائف المسيحية. 

فيذكر الحلبي أنه حتى منتصف القرن السابع عشر، كانت الكثلكة حديثة النشوء في حلب، وكان أول من افتتح إرسالية كاثوليكية فيها الرهبان الكبوشيون في 1626 ثم الكرمليون في عام 1667، وتلاهم اليسوعيون. 

وقارب عدد المسحيين في حلب في ذلك الوقت الأربعين ألفا. 

وسرعان ما اكتسب هذا الظهورُ بعدا جديدا هو البعد السياسي، بتدخل السلطات المدنية الحاكمة في الامبراطورية العثمانية، والقناصل والسفراء الأجانب فيه. 

ذلك أن الكنيسة السريانية اليعقوبية كانت تتمتع بوضع متميز وبدعم من الحكام في البلاد التي دخلت تحت الحكم العربي وبقيت تتمتع بالدعم نفسه في ظل الحكم العثماني. ولذلك فإن أي نشاط للإرساليات الكاثوليكية في البلاد الخاضعة للحكم العثماني، كان يُصوّر من قبل البعض كنشاط يحمل معاني سياسية خطيرة، وأنه تدخل لا بد أن تليه نتائج تلحق الأذى بسياسة الدولة العلية ومصلحتها العليا.

وذلك ما كان يسعى للتأكيد عليه البطاركة اليعاقبة في نزاعهم مع الكاثوليكيين، ولذلك كانوا ينعتونهم بـ«الفرنج»، وبأنهم يمثلون طرفا يرغب بالانسلاخ والتعامل مع أعداء الدولة العثمانية؛ حجج استطاعوا من خلالها أن يستميلوا السلطة العثمانية إلى جانبهم.
و يبدو أن يوسف الحلبي لم يكن راضيا عن هذا الموقف السلبي تجاه الكاثوليك، لأنه أدّى، كما يعتقد، إلى دفع اتباع المذهب الكاثوليكي في الطائفة السريانية إلى الاعتماد الكلي على الفرنسيين وتوثيق الصلات بهم، والاعتماد على الحماية المؤثرة والنشاط الفعال الذي كان يبذله القناصل والسفراء الفرنسيون في حلب وإسطنبول، لإبطال مفعول فرمانات النفي والحبس والتغريم التي كان يستصدرها اليعاقبة واستبدالها بفرمانات تمنح الحرية الدينية للكاثوليك.
 

أما عن دخول الطاعون للمدينة، فيروي صاحب «المرتاد في تاريخ حلب» أن الطاعون كان «قد تزايد في الساحل جدا في مايو/ أيار، وفي هذه الغضون جاء المقادسة الغربيون من القدس ومنهم مطعونون فما دخلوهم إلى حلب وذلك بطلب الإفرنج من الملا والمتسلم فنبهوا عليهم. حينها نزلوا في البساتين المحاذية للمدينة»، وفي اليوم التالي دخلوا المدينة بدون أن يكترثوا بالتعليمات، وأخذوا يختلطون بالناس لقضاء حاجاتهم إلى أن سافروا، وبعد مغادرتهم أُصيب القس العازاري ومات. 

ولا يكتفي صاحبنا يوسف بذكر هذا الأحوال، بل يقوم أيضا بذكر عدد ممن ماتوا بالطاعون من جميع النصارى في المدينة، والذين يقدر عددهم بسبعين إلى ثمانين. 

غير أن الأهم من هذه المعلومة، أنه يأتي، بالتفصيل، على ذكر أسماء كل من توفي مع ألقابهم، ما يمكّننا من معرفة أسماء بعض العائلات المسيحية في تلك الفترة، وهي أسماء تعود، كما نعتقد بحكم مكانة يوسف، إلى عائلات ذات مكانة في الوسط المسيحي سواء على المستوى الديني أو التجاري، مثل يازجي ابن دوماطو، وانطوان ابن قس نصر الله، وجبرا ابن يوسف كوسا، وإبراهيم عياط، وعبد الله ابن يازجي دقاقين، وخطيبة نقولا عزالة وغيرهم ممن أصيبوا بالطاعون في تلك الفترة.

طباعة