بقلم المحامي علاء السيد 

ولد خير الدين الأسدي عام 1900م فقيراً في حي شعبي أثري في حلب ، ولم يتلق تعليماً أكاديمياً، ولم يتزوج طوال حياته، وتوفي عام 1971م وضاع قبره.

في سطر واحد كهذا يمكن تلخيص حياة طويلة مأساوية لشخص إشكالي كالأسدي. لنبحث قليلاً في تفاصيل هذه الحياة ، تلك التفاصيل التي تحكى والتي لا تحكى.

كان الأسدي ضحية نزاع عائلي ما بين والدته ووالده انتهى بانفصالهما، مما ألقى بظلاله الثقيلة على شخصيته المركبة والمعقدة.

استطاع تثقيف نفسه ثقافة موسوعية متعددة رغم أنه لا يمكن وصفها بالأكاديمية، واستطاع الكتابة والتأليف في شتى المجالات اللغوية والتاريخية.

أشهر وأهم أعماله هي "موسوعة الأسدي" التي أُهمل مخطوطها بعد وفاته وهو أمر يجب التوقف عنده طويلاً، وكان قد عرض مسوداتها خلال حياته على الاستاذ نعمان سخيطة موجه اللغة العربية للسعي لطباعتها على نفقة بلدية حلب التي كان رئيسها من آل الجابري  فكان تقييم الاستاذ سخيطة لها أنها باللغة العامية وبالتالي لا يجوز إطلاقا مجرد التفكير بنشرها. 

وعلى أثر ذلك تصاعدت خلافات الأسدي مع رئيس البلدية التي كان قد وهبها مكتبته لقاء منحه راتب شهري وانتهى الأمر بايقاف منحه هذا الراتب.

استمر الأسدي بالكتابة في مسودة موسوعته دون أن يسعى لنشرها وتوفي وضاعت مخطوطتها، ولكن لحسن الحظ تم العثور عليها لاحقاً  موضوعة في "صندوقة كرتون للموز"، وتمت طباعتها في مطابع جامعة حلب الحكومية بعدما تم تنقيحها وتحقيقها من الاستاذ محمد كمال وإزالة صفحات منها بذريعة أنها تمس بالذوق العام، كتوثيقه للسباب والشتائم ضمنها، واختفى أيضاً ملحقها الذي يسمى "فوات الموسوعة" وهو على ما يبدو مخصص حصرا لتوثيق الكلمات والامثال والقصص البذيئة لدى الحلبيين وهو في علم التوثيق التراثي الاجتماعي أمر بالغ الأهمية.

وظهرت منذ سنوات مطبوعة صغيرة قيل أنها هي "فوات الموسوعة" وتم نشرها على نطاق ضيق ومن وجهة نظري الخاصة هي من كتابات الأسدي لكن تم نفي قطعية ثبوت عائديتها للأسدي ولم يؤخذ بها على أهمية ما ورد فيها من توثيق للبذاءات الاجتماعية. 

حصل الأسدي بعد نشر موسوعته وبعد وفاته على وسام الاستحقاق السوري. 

عانت الطبعة الأولى من موسوعته من إعادة السحب من الأسواق  والحذف لبضعة مواضيع منها ، بعدما اعترض بعض رجال الدين المسيحيي على قصة بصيغة طرفة يتداولها الحلبيون أوردها الأسدي تتعلق بالسيد المسيح عليه السلام، وبعدما اعترض المرحوم العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الأسبق على جمل أساء فيها الأسدي لأسرة الجابري العريقة بحلب على اعتبار أن زوجة العماد من آل الجابري .

وتم إصدار طبعة ثانية من الموسوعة بعد حذف ما تم الاعتراض عليه. 

كان الأسدي يعاني من ازدراء المجتمع المحلي له ربما بسبب اتهامه بالميول المثلية، أو ربما بسبب علاقته السيئة جداً مع والده طليق والدته، بل يقال أنه ضرب والده بعد تصاعد الخلاف ما بينهما، مما أسقط الوالد على درج المربع في بيتهم الهربي بحلب القديمة مما أدى فوراً وفق قناعة أهالي حلب إلى حادثة انفجار البارود في كفه التي دفعت والده ليسقط على الدرج،  مما أدى إلى بترها، وهذا ما اعتبره  المجتمع انتقاماً إلهياً له بعدم البر بالوالد.

لم يكن مجتمع حلب في ذلك الزمان يسامح بكلتا التهمتين سواء أكانتا محققتين أم لا. وتعرض الأسدي حسبما كتب هو في موسوعته للاعتداء الجسدي غير المبرر من شباب أغراب كانوا يلتقوه بالشارع فينهالوا عليه ضرباً وسخرية وهو رجل عجوز.

بل يقال أن الناس كانوا ينفضوا من القهوة في وصل إليها، في أواخر عمره يبدو أن المجتمع تناسى هذه الصفات وغفر له ما تم اتهامه به فكان معلما محبوبا من تلاميذه في المدارس التي قبلت توظيفه وكان متميزا بطريقته الخاصة غير النمطية بالتدريس.

ويروي العديد منهم قصص فقر حاله واضطراه يومياً لبيع كتاب من كتبه ليستطيع شراء "سندويشة فلافل" تقيم أوده.

في شبابه عانى من فصله من عدة وظائف بسيطة توظف بها ليتلقى قوت يومه بعدما تم اتهامه بتهم شتى، فتم فصله من التعليم بمدرسة اللاييك بعدما تم اتهامه أنه كان يلعب لعبة من الأولاد يقوم فيها بطلي وجوههم باللبن ويقومون بلعقها مجتمعين.

وتم فصله من العمل في المكتبة الوطنية بسبب اتهامه بالدخول مع فتى مراجع للمكتبة الى دورات المياه. ولا يمكن تبين صدق هذه الاتهامات من عدمه.

وكان هذا الأمر أحد أهم اسباب خلافه الطويل من آل الجابري على اعتبار أن مدير المكتبة حينها كان منهم، فقام بهجائهم في مؤلفاته، وألصق بهم أشنع النعوت دون داع.

عندما تولى أمانة السر في جمعية العاديات التي كان يترأسها عادة أهم وجهاء حلب كالدكتور عبد الرحمن الكيالي والدكتور أدولف بوخة كان يُعامل رغم حيويته وفعاليته في مجال البحث والتوثيق كشخص من الدرجة الثانية، على ما يبدو كان ذلك لفقر حاله وانخفاض سويته الطبقية الاجتماعية نسبة لبقية أعضاء مجلس الادارة ورؤساء الجمعية التي كانت توصف بالأرستقراطية، بل وتتهم بالماسونية وتوصف عادة محافل الماسونية بالنخبوية.

وكان الاستاذ صبحي الصواف الباحث والمؤلف الحلبي المهم يعاني من ذات معاناة الأسدي في جمعية العاديات حسبما روى لي عدة أشخاص عاصروا تلك الفترة.

انتظر الأسدي في مرقده لفترة طويلة حتى قام أحد طلابه النجباء وهو الدكتور ناهد كوسا المقيم في كندا بإعادة الاعتبار لذكراه عبر إطلاق مجموعة " فيسبوكية" باسمه، سرعان ما انضم إليها الآلاف وتم خلالها إحياء اسم الأسدي من جديد.