”احزي البخ” اللغة السرية لتجار حلب

13-01-2020 1843 مشاهدة

لكل مهنة مفردات خاصة يتداولها ويفهمها فقط رجال هذه المهنة، وفي اسواق المدينة التاريخية بحلب التي يزيد عمرها عن مئات السنين هناك ثلاثة اسواق رئيسية ، هي سوق الزرب وسوق الصابون وسوق القطن، وتختص ببيع البضائع بالمفرق ويتوارث تجار هذا السوق محلاتهم أبا عن جد، مما شكل فيما بينهم وسطا اجتماعيا تجاريا ذو عادات وتقاليد خاصة موغلة في القدم، وتختلف بعاداتها عن اي مكان آخر في العالم.

تتجلى فرادة هذا الاسواق باستعمال أصحابها فيما بينهم لغة خاصة مليئة بالرموز وبالتعابير والكلمات الغامضة والمستمدة من لغات الحضارات السابقة التي سادت بحلب، ولا يستطيع – حتى الآن – من هو من خارج السوق فهمها، اسم هذه اللغة السرية.

” احزي البخ”.

الغريب في الامر ان مؤرخ حلب خير الدين الاسدي لم يذكرها في موسوعته اطلاقا وبقيت دون توثيق حتى هذا التاريخ.

وحرصا على التراث المعنوي اللامادي لمدينة حلب واهلها، خاصة بعد احتراق اسواق المدينة وهجرة قسم كبير من تجارها، قمت بجمع بعض مفردات هذه اللغة ممن بقي بحلب ومازال يتقنها حفاظا عليها من الاندثار.

سأورد مشهدا تخيليا لأحد محلات هذا السوق مع ما يتم تداوله من هذه اللغة :

في احد محلات السوق يدخل احد الزبائن ليستقبله صانع صاحب المحل، يقوم التاجر صاحب المحل بالفراسة وبحكم خبرته الطويلة بتقدير وضع الزبون ويقترب من صانعه قائلا :

(حشيّم راعيّه.. حج شدّاد )

هذه العبارة تعني ان هذا الزبون دفيع ( حشيّم ) ، اما كلمة راعيه فهي لاثارة رضى الزبون ، وكلمة ( حج شداد ) هي شيفرة بين التاجر وصانعه تعني شد عليه بالاسعار ولا تراعيه .

فورا بعد هذه العبارة يقوم الصانع بتضييف الزبون سيجارة وينادي بائع القهوة المتجول لتضييف القهوة للزبون .

من الجدير بالذكر ان التقاليد القديمة تمنع منعا باتا ابناء صاحب المحل من تناول القهوة امام والدهم مهما بلغوا من العمر و بالطبع من البديهي عدم التدخين امامه .

اثناء بيع الزبون ( الحشيّم ) يدخل زبون ثاني للمحل، ويبدأ بالتدخل بعملية بيع الزبون الاول ناصحا اياه بأن نوعية البضاعة ليست بالجودة التي يزعمها الصانع .

يقول التاجر لصانعه : ( حطيط عبنكّع دلجو ) وتعني ( حطيط ) ان هذا الزبون غير مهم ولا يستحق العناية و( ينكّع ) تعني انه يخيّس بقيمة البضاعة و( دلجو ) تعني يجب صرفه واخراجه من المحل، وفي حال كان زبونا مزعجا جدا يقول له ( حطيط احط من الدبق) .

يبادر الصانع فورا قائلا للزبون غير المرغوب به : بتلاقي طلبك عند دكان “معمو” اسأل عليه بآخر السوق .

طبعا لا يوجد دكان بإسم دكان معمو، وما ان يخرج الزبون سائلا عن موقع دكان معمو حتى يكون بقية تجار السوق قد فهموا انه زبون غير مرغوب فيه .

يبدأ الصانع بوصف البضاعة بعبارات خاصة لاقناع الزبون : ( بضاعة اردنة أول باب ) وتعني انها بضاعة نخب اول، وفي حال كان الزبون غريبا ويرغب الصانع بالسخرية منه للتسلي، يضيف ( دمغتها على زيق المسيل ) في محاولة لايهام الزبون ان البضاعة كالجوخ الانكليزي مدموغة من طرفها علما ان المسيل يعني المجرور .

في حال طلب الزبون صنف معين لا يوجد في المحل ويعلم التاجر ان محلا آخر مجاور يوجد لديه هذا الصنف فيقول لصانعه ( سعيّها جيبها من المستودع ) وهي عبارة تعني اذهب واجلب الصنف من عند محل آخر دون ان يشعر الزبون .

عندما يجلب الصانع البضاعة ولكي يشرح لصاحب المحل رأسمالها دون ان يشعر الزبون – ليضيف صاحب المحل ربحه – هناك عبارات خاصة فمثلا :

اذا كان رأسمال البضاعة 250 ليرة يقول لمعلمه ( حقها حاصي الخمسمية ) وتعني نص الخمسمية او( انطرتين ونص ) علما ان الانطرة الواحدة تساوي 100ل .

فاذا اعجب الزبون بالبضاعة يقول التاجر لصانعه : ( اطنيه ) اي طالبه بأعلى سعر واكويه .

فجأة تأتي دورية تموين للسوق لتفتش عن مخالفات للاسعار او عن نوعية البضائع، ليبدأ فورا شخص مخصص يوجد في كل سوق ويتقاضى راتب اسبوعي من اصحاب المحلات يسمى ( الخميسية ) بالمناداة ( عباية ..عباية ) وكلمة عباية خاصة بدوريات التموين حصرا اما الدوريات الاخرى فلها كلمة رمزية أخرى سنأتي إليها لاحقا، واحيانا تقبض عليه دورية التموين لهذا السبب .
عند سماع كلمة عباية يبدأ التجار ينادون بعضهم ( دلج من هون ) اي اخلي المحلات، ولا يبقى عادة الا من كان لديه زبون ( حشيّم ) فيخاطر بالبقاء لئلا يفقد زبونه.

ومن الجدير بالذكر ان استعمال التجار اساليب ومفردات خاصة لاقناع الزبون وتسويق بضائعهم وللتفاهم فيما بينهم هو امر متبع عالميا.

وما خصوصية هذه المفردات المغرقة بالقدم في اسواق حلب الا دليل اكيد على عراقة هذه الاسواق لوقوعها منذ مئات بل الاف السنين على طرق التجارة العالمية وخاصة “طريق الحرير”، وتعاملها مع تجار من مختلف بلاد العالم والاستفادة من لغاتهم جميعا.

نتناول اليوم حالات التعامل مع الزبون الذي لا يتكلم اللغة العربية، كالسواح الاجانب من مختلف دول العالم الذين كانوا يقومون بالتسوق في اسواق المدينة التاريخية .

لتسهيل التعامل بين اصحاب المحلات وهؤلاء، لا بد من وجود وسيط يتقن لغة الزبون وهؤلاء هم ( المجفتين ) اي السماسرة ، ويختلفون بين :

دليل سياحي يرافق السواح، او اشخاص يقفون بالسوق ويقتربون من الاجنبي عندما يشعرون برغبته بالشراء والتفاهم مع الباعة، يتحدث هؤلاء عادة ست او سبع لغات كالانكليزية والفرنسية والايطالية والاسبانية والتركية وغيرها .

وفقا للعرف التجاري يتقاضى ( المجفت ) في حال كان دليلا سياحيا مرافقا للوفد نسبة معروفة هي خمس وعشرون بالمئة من قيمة المبيعات الاجمالية وليس من نسبة الربح، وترتفع هذه النسبة الى خمس وثلاثين بالمئة اذا كانت المبيعات باهظة الثمن كالسجاد العجمي وغيره.

اما المجفت المتواجد دائما بالسوق ويصطاد الزبائن المارة فيتفق مع اصحاب المحلات على نسبة معينة وفقا لكل صاحب محل وبضاعته .

وفي حال لم يتفق صاحب المحل مع المجفت على النسبة يقوم المجفت ( بتنكيع ) البضاعة امام الزبون ( اي تخييس البضاعة ) وينعته صاحب المحل حينها بلقب ( محريك) .

سأورد مشهدا تخيليا لحادثة شراء مجموعة من الاجانب لبضائع من صاحب محل بسوق المدينة :

يقترب وفد سياحي مؤلف من رجال ونساء اجانب من احد الاسواق وتبدأ الانظار بالتوجه اليه :
تلفت الانظار سائحة شقراء معهم فيقول احد الصناع لزميله لافتا نظره :

احزي القاطون سفاية ( احزي تعني راقب او شاهد، والقاطون تعني فتاة جميلة، والسفاية هي المؤخرة، والجملة معناها انتبه وشوف بنت حلوة ذات قوام جميل)

يدخل الدليل السياحي الى المحل الذي اتفق مسبقا مع صاحبه على النسبة المخصصة له، يقترب المجفت الواقف قرب المحل مخاطبا الدليل السياحي وهو اصلا مجفت مثله قائلا له :

بالحاصي ( اي نقتسم التجفيته اي النسبة مناصفة )
فيجيبه الدليل السياحي : دلج شته ( اي ارحل من هنا )

يبدأ صاحب المحل بعرض بضاعته على سائح متقدم بالسن فيقول له المجفت الدليل السياحي :=

ميكا عود ( اي زبون لا يستحق العناية )

ويشير الى سائح آخر قائلا :

زيقه نضيف ( اي انه زبون دفيع وجه اهتمامك له )

و لكن السائح لا تعجبه البضاعة ويبدي عدم رغبته بالشراء فيقول صاحب المحل للمجفت :

طوفس اوجمو ( طوفَس اي سوف يعدل عن الشراء، و” اوجمو” تعني عليك باقناعه )

فيجيبه المجفت :

عالشيئر ( اي شغلة فاضية ولن يقتنع )

وهنا تقترب السائحة مبدية اعجابها بصنف معين، فيسارع المجفت قائلا لصاحب المحل :

اشتك منها ( اي اقبض منها )

وبعدما يبيعها البضاعة، يسارع المجفت خفية قائلا :

أبص ماعوت بشّلك ( أبص اي قبضني، وماعوت تعني النقود، وشلّك تعني من جيبك والجملة تعني اعطني حصتي من جيبك )

فيقول التاجر : حوب (اي سأدفعهم لك بالدين )
فيجيبه : شندي ( اي نقدا)
فيقول التاجر: حامشاه ( اي خمسمئة )
فيجيبه المجفت : ششاه ( اي ستمائة )

في هذه اللحظة تقترب دورية أمنية من السوق لكي تراقب التعامل بغير العملة السورية وتلاحق هذه الدوريات عادة صرافي العملة فيقترب احدهم من صاحب المحل قائلا بصوت خافت :

حشم مخارز ( اي احذر دورية خطرة ) ..

او يقول : ( حشم هدا المخرز بحزي الشل) اي احذر من هذا الشخص وخذ حذرك بشدة.

نتمنى ان يكون هذا التوثيق فاتحة لتوثيق المزيد من هذه المفردات من المهتمين بحفظ التراث اللامادي العريق للحياة التجارية في مدينة حلب. ونتمنى عودة اسواق المدينة بحلب الى عافيتها فهي القلب التجاري النابض لعاصمة سوريا الاقتصادية.

شارك الموضوع مع اصدقائك !!
لمتابعة أحدث منشورات دار الوثائق الرقمية التاريخية على شبكات التواصل الاجتماعي :

مواضيع اخرى ضمن  مدونة المحامي علاء السيد

02-10-2022 4047 مشاهدة
حقيقة قصة السلطان عبد الحميد مع اليهودي قراصوه التي لا أساس لها

عندما بدأت الحملة الممنهجة لتبييض صورة السلطان عبد الحميد عمدت بعض الكتابات العربية للترويج لقصة اليهود الدونمة ومحاولتهم شراء أجزاء من فلسطين ورفض السلطان عبد الحميد لذلك بطريقة بطولية مما دعا هؤلاء لخلعه  المزيد

02-10-2022 3327 مشاهدة
السلطان عبد الحميد والرقابة على الصحف وتقييد الحريات

جاء في الفصل الأول المعنون : الشخصية الحميدية  من كتاب "أوهام الذات المقدسة السلطان عبد الحميد لمؤلفه المحامي علاء السيد وذلك تحت تحت عنوان : رقابة المطبوعات الحيوية  المزيد

13-08-2022 4238 مشاهدة
مصادر ومراجع كتاب "أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" لمؤلفه المحامي علاء السيد

اعتمد كتاب"أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" على حوالى 78 مصدرا ومرجعا و على ما نشر في حوالى 17 جريدة ومجلة من أخبار ومقالات متعلقة بما ورد في الكتاب  المزيد

13-08-2022 3746 مشاهدة
الفهرس الكامل لكتاب "أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" لمؤلفه المحامي علاء السيد

الفهرس  6 , مقدمة  9 , تمهيد  11 , الفصل الأول: الشخصية الحميدية  29 , طفولة سلطان  31 , شروط مدحت  33  المزيد

13-08-2022 3271 مشاهدة
السلطان عبد الحميد وحقيقة رفضه بيع فلسطين لهرتزل زعيم الصهاينة وعرضه حلب بديلا عنها

أفرد كتاب "الذات المقدسة ، السلطان عبد الحميد الثاني" فصلاً كاملاً بعنوان : "السلطان عبد الحميد وقضية فلسطين" في 56 صفحة فيها 116 اشارة توثيقية مرجعية  المزيد

13-08-2022 3988 مشاهدة
أراء المؤرخين بشخصية السلطان عبد الحميد الثاني .المحامي علاء السيد

لإيفاء دراسة شخصية عبد الحميد حقها، يجب أن نعي تماماً أن هذه الشخصية تطورت وتعقدت خلال ما يزيد عن ثلاثة وثلاثين عاماً من الحكم،  المزيد

13-08-2022 2288 مشاهدة
تعاون السلطان عبد الحميد مع اليهود لاستيطان مدينة القدس. المحامي علاء السيد

إن الاستيطان اليهودي في فلسطين زمن الدولة العثمانية حتى نهاية عهد السلطان عبد الحميد وقبل عهد " الاتحاد والترقي" بُني على طريقتين  المزيد

02-08-2022 2889 مشاهدة
مقالة نقد كتاب أوهام الذات المقدسة بعنوان : السلطان عبدالحميد الثاني، بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي

مقالة نقد كتاب أوهام الذات المقدسة بعنوان : السلطان عبدالحميد الثاني، بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي. والرد على المقال .  المزيد

أكثر الكتب مشاهدة

مكتبة الفيديو