المعروك الحلبي وقصة تلاقي الحضارات

مكتبة الفيديو    3707  مشاهدة
لمشاهدة المعروك الحلبي وقصة تلاقي الحضارات على اليوتيوب , انقر هنا

الخبز الأقدم والأشهر والأكثر استعمالا في سوريا هو الخبز البلدي المشروح، المشهور خارج سوريا باسم خبز سوري ، والمسمى داخل سوريا ببساطة باسم "خبز" وبس، دون أي إاضافة إسمية،  والذي ينتفخ عند خبزه في الفرن وينشطر إلى طبقتين، وهو مؤلف من دقيق الحنطة المنزوعة القشر وخميرة وملح وماء، ولا يضاف اليه السكر ولا الزيت أو الزبد، وهو المعتمد في المدن السورية منذ قديم الزمان وتتميز بنوعيته بلاد الشام.

بشكل عام لا يفضل الحلبيون الخبز السميك أو ما يسمى الصمن، فهم حتى الأن ينزعون قلب الصمن المنفوش عند استعماله، ويأكلون الطبقتين العليا والدنيا فقط. 

الخبز الأفضل هو الخبز الرقيق، ويتباهى أصحاب الأفران أيهم خبزه أرق كورق السيكارة.

استثنى الحلبيون خبز شهر رمضان من هذا التفضيل، وفضلوا أكل المعروك خلاله، وهو خبز سميك نسبياً.

قد يكون تفسير سبب استبدال الحلبيون الخبز البلدي بالمعروك خلال شهر رمضان منذ قديم الزمان، لأن المعروك هو الحل الأرخص شعبياً لتناول خبز محلى على مائدة الافطار في رمضان، فهو بديل عن الحلويات الغالية التي تستلزم الفستق الحلبي والسمن الحيواني الحديدي ..الخ، استبدالها بحلويات رخيصة بالنسبة للفقراء في فترات الفقر التي سادت بلادنا منذ مئات السنين.

في حلب هناك نوعين من المعروك: 

المعروك الدرناق : المعروك القادم من شرق العالم وهو المعروك الرقيق واسمه الاصلي درناق 
والمعروك القادم من غرب العالم وهو المعروك السميك المنفوش 

بالنسبة للمعروك الرقيق ( الدرناق ) يبدو أن أصوله من الخبز المستخدم في آسيا الوسطى كبلاد الأفغان، والذي يسمى " نان "، ويؤكل الى جانب جميع الأطعمة واللحوم،  وهو خبز منتشر في دول الخليج حتى هذا التاريخ، وما زلنا بحلب نصنع فطائر عجين نرش عليها السكر تسمى نانات.

ولكن الحلبيين أسموه "درناق" وغيروا اسمه الأفغاني "نان"، و"درناق" كلمة تركية تعني رؤوس الأصابع. 

وسمي بهذا الاسم  لأنه يتم الضغط على عجين الدرناق  بأطراف الاصابع، وتثقيب سطحه بالأظافر لمنعه من الانتفاخ في الفرن. 

ميزة هذا النوع هو قدرة الافران على سرعة الانتاج فلا يحتاج إعداده الى زمن طويل. 

فالعجين المؤلف من دقيق الحنطة والماء والملح والخميرة وقليل من السكر يعرك باليدين لدمج مكوناته، ولا يحتاج إلا إلى ساعة زمن للتخمير، بخلاف بقية أنواع الخبز التي تحتاج الى ترييح العجين ليختمر لعدة ساعات،  ثم يترك عجين الدرناق لمدة ساعة ثانية لمرحلة تخمير ثانية، ثم يوضع بالفرن. 

ويرش على وجهه كمية كبيرة من السمسم. ويخرج من الفرن رقيقاً، وهو مليء بالفقاعات ولكنه غير منفوخ.

لتحويل هذا الدرناق الزهيد التكلفة إلى حلوى رخيصة شعبية، قام الحلبيون بدهنه بعد خروجه من الفرن  بدبس العنب الذي كان يصل لحلب بسعر زهيد نسبياً من منطقة عنتاب التابعة لحلب تاريخياً، ودبس العنب كان أرخص من القطر المصنوع من السكر، فقد كان السكر منتجاً مستورداً غالياً قبل مئات السنين، كما أن للعنب نكهة محببة.

وهكذا أوجد الحلبيون حلاً شعبياً رخيصاً لتناول خبز محلى على الإفطار بديلا عن البقلاوة الحلبية مثلا.

بقي هذا المعروك هو المفضل لدى الحلبيين حتى مطلع القرن العشرين، وكانت ثلاثة أفران تنتجه في شهر رمضان في محلة الكلاسة الشعبية، هي فرن القطاع وفرن الشغالة وفرن عتيق، وبقي فرن العتيق فقط حتى ما قبل الحرب منتجاً لهذا النوع المميز من المعروك الحلبي على أصوله، ثم أغلق خلال الحرب.

عاد انتاج الدرناق لحلب في السنوات الاخيرة ولكن ليس بذات الطعم والنوعية، لعدم توفر أفران مبنية بالحجارة تعمل على الحطب، واستبدالها بالأفران المعدنية التي تعمل على الغاز، ولاختلاف طريقة رق العجين، مما أثر على النوعية والطعم.  

الخلاصة في حال لم تكن للمعروك الرقيق فقاعات، فهو ليس معروك الدرناق الأصلي.

المعروك المنفوش : 

النوع الثاني من المعروك الذي انتشر وطغى تدريجياً على المعروك الدرناق الرقيق بحلب هو المعروك السميك والمعروف في جنوب سوريا منذ حوالي أربعمائة سنة، وهو المعروك القادم من جنوب مصر منذ آلاف السنين، ويسمى في الصعيد العيش الشمسي،  والذي انتقل لاحقاً للغرب، وربما عاد إلينا من أوروبا من الأفران الاسبانية والفرنسية، أو هو موجود أساساً بعدما وصل من مصر الفرعونية لبلادنا من قديم الزمان.

يضاف لعجين الدقيق في هذا المعروك الحليب والسكر والزبدة وأحيانا البيض والمحلب، لتضفي هذه الاضافات عليه نكهة مميزة، ويمكن إضافة الزبيب إليه أيضاً أو التمر.

في الأصل كان هذا النوع من المعروك يحتاج لفترات تخمير طويلة ليحقق الانتفاخ المطلوب، وخلال وضعه في الفرن يحتاج الى بخار الماء لترطيبه، ويرش على وجهه السمسم وحبة البركة، ويدهن وجهه أحياناً بقطر السكر، وبذلك تكون صناعته أكثر تعقيدا وكلفة من معروك الدرناق. 

أهم اسباب انتشار تناول هذا المعروك المنفوش في حلب في رمضان فقط، هو تبرع أهل الخير بتكاليفه وصناعته وتوزيعه مجاناً على الفقراء خلال الشهر الفضيل، كنوع من تعويضهم على عدم قدرتهم على تناول الحلويات العربية المكلفة. 

وكانت الافران تنتجه ويوزع قبل السحور، فشاع كوجبة سحور رمضانية حلبية إلى جانب الجبنة البيضاء المسنرة. 

واستمرت عادة توزيعه مجاناً على الفقراء حتى يومنا هذا، فقد اعتاد المسيحيون الحلبيون على توزيعه مجاناً على الفقراء كصدقة على روح الميت، ويسمى عندهم "حسنة".

في السنوات الاخيرة ورغم ظروف الحرب الاقتصادية الصعبة فقد استمر الحلبيون بتطوير معروكهم، فتفننوا في شكله وأضافوا اليه ما لا يخطر على بال من مواد ونكهات وأنواع فواكه، فمنها المعروك بالشوكولا السوداء والبيضاء الكيندر، وتصل تشكيلة أنواع المعروك الحلبية الحالية لعشرات الانواع.

شارك الموضوع مع اصدقائك !!
لمتابعة أحدث منشورات دار الوثائق الرقمية التاريخية على شبكات التواصل الاجتماعي :

مواضيع اخرى ضمن  مكتبة الفيديو

أكثر الكتب مشاهدة

مكتبة الفيديو