الاحتلال البريطاني لسوريا 1918

24-12-2019 14284 مشاهدة

المعلومات المتوفرة لدينا عن أحداث دخول الجيوش البريطانية للأراضي السورية من الجنوب، ووصولها حتى حلب شمالا، وبقائها جاثمة على الأراضي السورية فترة تزيد عن العام، تكاد تكون معدومة.

عند انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، انسحبت القوات التركية وحلفاءها الألمان من سوريا، و قد كان تعدادهم قد وصل إلى عشرة آلاف جندي ألماني، وخمسة عشر ألف جندي تركي، وحوالي اثنا عشر ألف جندي عربي موالين للعثمانيين، وقد أقام الجنود الألمان بحلب ما سمي وقتها قشلة الألمان في منطقة مساكن السبيل الحالية، وهو موقع عسكري تحول إلى ثكنة طارق بن زياد حاليا.

عندما انسحب الأتراك من دمشق، سارع الأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، إلى إعلان قيام حكومة عربية بدمشق على كامل أراضي سوريا الطبيعية برئاسته وتحت راية الشريف حسين، و كان مقيما في دمشق ويتبع له حوالي الخمسة عشر ألف رجلا من المغاربة والجزائريين.

طلب الجزائري من رئيس بلدية بيروت عمر الداعوق رفع العلم العربي فقام برفعه، كما طلب من بطريرك الموارنة تشكيل حكومة في جبل لبنان مركزها بعبدا ورفع العلم العربي عليها، فتلكأ بانتظار الدعم الفرنسي الموعود.
كان العلم العربي يحمل ألوانا أربعة، الأخضر رمزا للفاطميين، والأبيض رمزا للامويين، والأسود للعباسيين، أما الأحمر فهو شعار أسرة الحسين الهاشمية.

في شتاء عام 1918، دخلت من الجنوب قوات الثورة العربية التي تحمل راية الشريف حسين بقيادة الشريف ناصر شقيق الشريف حسين وعم الأمير فيصل، والمؤلفة من رجال عدة عشائر عربية أهمها عشيرة الرولا من فخذ عنزة، بزعامة الأمير منير الشعلان، وعشيرة الجبور بزعامة الأمير طراد الملحم المتواجدة حتى الآن في حمص، وعشيرة عنزة في وادي سرحان في العقبة بزعامة الشيخ عودة بن حرب وغيرها من قوات عشائرية، بقيادة غير مباشرة من الضابط البريطاني لورنس، الشهير بلورنس العرب.

دخل الجنرال البريطاني اللنبي سوريا، قادما من القدس، بعدما صرح فيها تصريحه الشهير ( الآن انتهت الحروب الصليبية )، و التقى الجيشان في دمشق .

لم يطل عمر حكومة الأمير سعيد الجزائري إلا يوما واحدا فقط، فقد قام لورنس بخلعه، وتعيين الدمشقي شكري باشا الأيوبي، وهو من سلالة صلاح الدين، حاكما عسكريا، و كان في السبعين من عمره في ذلك الوقت .

دخل الأمير فيصل دمشق وكان شابا في الثالثة والثلاثين من عمره، على جواد ابيض يحيط به ألف وخمسمائة فارس، واستقبلته الجماهير بحماس منقطع النظير.

أفهم الجنرال البريطاني اللنبي الأمير فيصل بأنه هو القائد العام، و فيصل هو مجرد قائد في القوات المتحالفة، وافهمه ان سلطته تنحصر فقط على المناطق السورية الداخلية، ولا علاقة له بالساحل وببيروت وجبل لبنان وفلسطين، رضخ فيصل أمام الأمر الواقع، كان قرار اللنبي هو النافذ.

عرف عن فيصل تردده و ضعف إرادته وسرعة تغيير رأيه، وعدم قبوله الرأي والمشورة، و تساهله و تسامحه الشديد، ونبله مع أعدائه، كان مسرفا مبذرا في إنفاق المال، محبا لمظاهر التفخيم، لقد كانت شخصيته أثرة تسحر من حوله، ولم يعرف عنه انه غضب أبدا، يأكل قليلا ويدخن كثيرا.

عندما دخل الشريف مطر قائد القوات العربية حلب، عين كامل باشا القدسي واليا عليها، وهو من أشراف حلب، ومن ذات العائلة التي أنجبت الدكتور ناظم القدسي الذي تسلم لاحقا رئاسة الجمهورية السورية، أما الجنرال اللنبي، فقد عين الضابط العراقي الموالي للبريطانيين جعفر العسكري حاكما عسكريا فعليا بدلا من كامل باشا القدسي .

أما في منطقة الاسكندرونة فقد قام إبراهيم هنانو، وكان أمين سر ولاية حلب بتشكيل حكومة وجيش صغير تحت علم الشريف حسين في بلدته كفر تخاريم و تقع على الحدود التركية الحالية، ودخلت قواته إنطاكية ورفعت عليها العلم العربي .

حمى هنانو، الذي كان متزوجا من سيدة تركية، الجنود الأتراك المنسحبين، ومنع تمزيق العلم التركي، و قال : ( ان هذا العلم أظل العرب و المسلمين ستة قرون ويجب ان يبقى محترما، والشعب التركي أخ للشعب العربي وان تفرقا )، و قد قدر له الأتراك موقفه هذا لاحقا ودعموا ثورته ضد الفرنسيين.

في حماه تشكلت لجنة من الوجهاء وانتخبوا بدر الدين الكيلاني رئيسا لحكومة محلية ريثما يدخل الجيش العربي حماة، و طلب الكيلاني من سامي الحراكي تشكيل حكومة عربية في معرة النعمان التي كانت تابعة إلى حماة، وفي حمص تشكلت حكومة محلية برئاسة عمر الاتاسي، و كان من أعضائها رجل الدين المسيحي الوطني : الخوري عيسى اسعد.

كانت القوات الفرنسية قد بدأت بالتوافد إلى سواحل سوريا واستلام المواقع من الجنود الإنكليز، وتمركزت قيادتها في جزيرة أرواد، واستقرت في ميناء اسكندرونة شمالا، واحتلت بيروت جنوبا ، لم تدخل العمق السوري .

أما الجنرال البريطاني اللنبي فقد أمر بإنزال العلم العربي المرفوع في بيروت وكافة المدن الساحلية بعدما احتلتها القوات الفرنسية، فاحتج فيصل على هذه الإهانة وهدد بالاستقالة، فنصح مستشارو اللنبي بمهادنة فيصل، خوفا من إثارة المتاعب مع الأهالي، فأبلغ اللنبي فيصلا ان هذه الإجراءات مؤقتة وسينظر بالأمر لاحقا، وانطلت الخدعة على فيصل .

طلب اللنبي من فيصل إصدار الأوامر لهنانو كي تسلم الحكومة العربية في إنطاكية المدينة للفرنسيين، فامتثل هنانو لأوامر فيصل بعدما اقنعه ان الوجود الفرنسي مؤقت.

شكل فيصل أول حكومة عربية صورية لم تكتب لها الحياة الفعلية، رئسها الضابط السابق في الجيش العثماني، الدمشقي علي رضا الركابي، وضمت ثلاثة وزراء من جبل لبنان، ووزير من بيروت ، ووزير من دمشق ، وساطع الحصري من حلب ، ووزير الدفاع من العراق ، محاولا الإيحاء ان هذه الحكومة تمثل سوريا الكبرى وليست حكومة على الأجزاء الداخلية من سوريا.

كان تعداد جيش فيصل يبلغ حوالي الثمانية آلاف وخمسمائة رجل، وعندما حاول وزير الدفاع تسليحهم رفض البريطانيون إمدادهم بالسلاح .

جال فيصل على المدن السورية وفي زيارته لحلب شتاء عام 1918 خطب فقال :
(ان لحكومات فرنسا وبريطانيا اليد البيضاء في مساعدتنا، ولا ينسى العرب فضل معاونتهم ).
ثم توجه من حلب إلى طرابلس حيث قوبل بحماس منقطع النظير، أكد خلاله أهالي طرابلس أنهم جزء من سوريا، وعندما وصل إلى بيروت، لم يكن لجميع الأهالي ذات الحماس، فقد كان بعضهم مواليا لفرنسا بشكل كامل .

دعي فيصل نهاية عام 1918 إلى أوروبا للمشاركة في مؤتمر الصلح الذي انعقد بعد الحرب العالمية، فغادر بيروت باتجاه مرسيليا في فرنسا، والتقى فيها مع لورنس قادما من انكلترا، و كان لورنس مرتديا الزي العربي، فرفض الفرنسيون استقبال لورنس رسميا ما لم يرتدي الزي العسكري البريطاني بصفته ضابطا بريطانيا لا عربيا، فما كان من لورنس إلا ان غادر فرنسا الى انكلترا، بعدما رد الوسام الذي قلده إياه الفرنسيون سابقا أثناء الحرب، و تابع فيصل زيارته لفرنسا من دونه، حيث قلده الجنرال الفرنسي غورو وساما رفيعا في ستراسبورغ على الحدود الالمانية .

كان لهذه الحركة من لورنس بعدما رفض خلع الرداء العربي، التأثير الكبير على الأمير فيصل، و يبدو ان لورنس كان يعرف كيف يؤثر على فيصل.

شعر فيصل بالشك تجاه نوايا الفرنسيين خلال زيارته لباريس، وعندما وصل إلى لندن كان لورنس في استقباله، و أقام له البريطانيين استقبالا فخما حضره الملك شخصيا، وبعد شهرين من الإقامة الفخمة في لندن، بدأ فيصل يرتدي اللباس الأوربي ويتجول في شوارع لندن .

أكد له البريطانيون على حسن نواياهم تجاه سوريا، بينما كانوا من وراء ظهره يقتسمون ما تبقى من سوريا، ويقومون بتعديل اتفاقية سايكس بيكو مع الفرنسيين، التي ابرمت قبل سنوات في غفلة عن الشريف حسين، فطلبوا الحصول على الموصل الغني بالنفط ، لقاء ان يتنازلوا للفرنسيين عن كيليكيا، وقبل الفرنسيون بذلك .
نظم لورنس لقاءً بين فيصل وزعماء الحركة الصهيونية بزعامة وايزمن، الذين أكدوا له ان هجرة اليهود لفلسطين هي هجرة عادية طالبين المساواة مع السكان والمساهمة في الاعمار، وأنهم لا ينوون أبدا إقامة دولة يهودية فيها، وصدق فيصل ذلك.

عندما انعقد مؤتمر الصلح في باريس، رفض الفرنسيون اعتبار فيصل ممثلا عن سوريا، واكتفوا باعتباره ممثلا عن الحجاز، وكان الحل ان يكون هناك ممثلين اثنين، واحدا عن الحجاز والآخر عن سوريا، و شارك في المؤتمر سبعا عشرين دولة أهمها بريطانيا فرنسا والولايات المتحدة .

طرح فيصل خلال المؤتمر طروحات جديدة، هي إقامة ثلاث حكومات عربية : الأولى في الحجاز والثانية في سوريا و لثالثة في العرا ، وطرح نفسه قائدا لثورة سورّية مستقلة عن ثورة الحجاز، واستثنى فلسطين من سوريا، و قال انه لا مانع ان تكون تحت وصاية دولة كبرى، واقترح الأمريكيون نظام الانتداب على الدول، وتقرر هذا النظام ، كما اقترحوا إرسال لجنة لاستفتاء الشعب حول رغباتهم السياسية، وأي دولة يرغب السوريون بأن تكون منتدبة عليهم .

وافق الفرنسيون والبريطانيون مكرهين، على إرسال لجنة أمريكية لمعرفة رغبات الشعب السياسية ، وكان أعضاءها من الأمريكيين فقط، وعندما شعر البريطانيون بخطر اللجنة الأمريكية، سارع لورنس بإقناع فيصل بتجاهل عمل اللجنة والاتفاق مع فرنسا مباشرة .

أجزل الفرنسيون الوعود لفيصل، وطلبوا منه قبول سحب الجنود البريطانيين، و احلال جنود فرنسيين بدلا عنهم و رفع العلم الفرنسي، مقابل إعلان استقلال سوريا، وقبول فرنسا به، طبعا كان هذا العرض مكشوفا ، فكيف يعلن عن استقلال دولة سورية، جنودها فرنسيون وعلمها فرنسي، حاول فيصل المماطلة حتى ظهور نتائج اللجنة الأمريكية .

بعد خمسة أشهر من الإقامة في أوربا، عاد فيصل إلى بيروت، واستقبلته الجماهير استقبالا شعبيا حافلا، و أطلقت له القوات البريطانية المدافع ترحيبا به.

فيصل أمام الجماهير العربية غير فيصل أمام دهاة الساسة الإنكليز و الفرنسيين، فقد صرح تصاريح نارية أمام الجماهير مثل ( ان كل من يطلب معونة إنكلترا او فرنسا او أمريكا فليس منا، ولا بد من الاستقلال المطلق )، و قال ان مؤتمر الصلح اقر الاستقلال و لكنه لم يأت على ذكر ما يخص الانتداب إلا لاحقا وأمام الخاصة من رجاله، و قال كلمته المشهورة ( الاستقلال يؤخذ و لا يعطى ) .

عندما وصل لدمشق ربيع عام 1919 ، استقبلته الجماهير استقبالا منقطع النظير، وأعد له الدمشقيون عربة تجرها ثمانية خيول سروجها من الذهب والفضة وزينت جوانبها بالمجوهرات التي تبرعت بها السيدات الدمشقيات، و قدم الدمشقيون خمس وعشرون ألف سجادة لفرش الطريق، و عرقلت الورود الملقاة عليه مسير الموكب من كثرتها .

أطلق فيصل للمرة الأولى اصطلاح ( الأمة السورية ) المستقلة عن الحجاز، و تعالت الهتافات بالموافقة، و بايعته وفود بيروت وصيدا و فلسطين ودمشق و حمص و حماه و حلب و طرابلس و وفود العشائر ..و غيرها من وفود ، و لم يذكر للوفود الفلسطينية أن فلسطين استثنيت من الدولة السورية .

بدأت الصراعات الخفية بين الرجال القادمين مع فيصل من هاشميي الحجاز ورجال العشائر وضباط الجيش العربي وأغلبهم من العراقيين الموالين لإنكلترا ، وبين الرجال السوريين الذين كانوا يعملون سابقا تحت ظل الحكم التركي، والتف السوريون حول الضابط الدمشقي الشاب يوسف العظمة البالغ الخامسة والثلاثين من عمره فقط، والذي كان ضابطا في الجيش العثماني ودرس أركان حرب في ألمانيا ، وحارب سابقا في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، و كان متزوجا من سيدة تركية ، وله منها ابنة واحدة اسمها ليلى .

قرر فيصل في بداية صيف عام 1919، الدعوة لانتخاب مجلس نيابي، أسوة بما شاهده في أوربا، و اسماه المؤتمر السوري، و كان اغلب أعضاؤه من نواب البلاد السابقين إلى مجلس المبعوثان العثماني، وبلغ عددهم خمسة و ثمانون عضوا، من دمشق و شرق الأردن و إنطاكية و بيروت و طرابلس و جبل لبنان و فلسطين و حلب و حماه و حمص و دير الزور و جبل الدروز ، لقد كان حقا المجلس الوحيد في التاريخ الذي مثل أعضاءه مواطني سورية الطبيعية بالكامل ولم يتكرر بعدها.

كانت مهمة المؤتمر وضع قانون أساسي للبلاد و سمي لاحقا ( الدستور )، و كانت غاية فيصل من المؤتمر أن يبين بوضوح للجنة الأمريكية القادمة، إجماع مواطني سوريا الطبيعية على قبول حكمه، و إنهاء فكرة الوحدة مع الحجاز، و إظهار رفض الشعب للانتداب الفرنسي .

قرر المؤتمر المطالبة بوحدة سورية و استقلالها، وقبول انتداب أمريكا او بريطانيا، و رفض الانتداب الفرنسي، ولكن على ان يكون مفهوم الانتداب هو المساعدة الفنية فقط .

أعلن بطريرك الموارنة حويك في جبل لبنان عدم رغبته بالانضمام للدولة السورية و قبوله الانتداب الفرنسي، و اعتبار العيد الوطني الفرنسي عيدا وطنيا في جبل لبنان ، وبدء يطالب بتوسيع أراضيه لتشمل البقاع و طرابلس و بيروت و غيرها من أراض كانت سورية حتى ذلك التاريخ ، وصرح من باريس : أن لبنان يفضل الموت جوعا في ظل صخوره على ان يكون تابعا لدمشق .

تأخرت اللجنة الأمريكية بالوصول ، بسبب العرقلة البريطانية الفرنسية ، و هدد فيصل بإعلان الاستقلال، فكان رد الجنرال البريطاني اللنبي قاسيا، وهدده بقيام مواجهة بين القوات الفرنسية و البريطانية معا مع القوات العربية الفيصلية لسحقها ، وصرح علانية ان بريطانيا لا ترغب بالانتداب على سوريا، ولكنه عاد و تبسط معه وأكد له ان اللجنة قادمة .

وصلت اللجنة، والتقت أعضاء المؤتمر السوري وزارت مختلف المدن السورية و استغرق منها الأمر طوال الصيف ، و تقدم الأهالي بعريضة موقعة من ثلاثمائة ألف مواطن تؤيد المطالب الوطنية لرجال المؤتمر، و لكن سرعان ما تبين للجميع أنها لجنة صورية وقراراتها غير ملزمة لأحد ، وطوي تقريرها في الأدراج .

في نهاية صيف عام 1919، قام فيصل في محاولة ضعيفة لبسط سلطته ، بتشكيل حكومة إدارية مدنية تحت رئاسته، اسماها مجلس المديرين بدلا من اسم مجلس الوزراء، ورغب فيصل ان تكون هذه الحكومة بديلة عن الحاكم العسكري الذي كان تحت سلطة الجنرال اللنبي ، طوال هذا الوقت.

رفض اللنبي هذه الحكومة، و تراجع فيصل ليعلن انه مجرد مجلس استشاري، واعلم البريطانيون فيصل صراحة أنهم سيعملون على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، وان اللنبي هو المسئول الوحيد والأعلى، وانه لا قيمة لمجلس المديرين وعندما رفض فيصل ما صرح به البريطانيون ، أعلموه ان أي مقاومة منه ستقمع بالقوة .

سافر الجنرال اللنبي إلى إنكلترا، خريف عام 1919، و نصح باستقدام فيصل إلى أوربا للاتفاق معه نهائيا، و تبلغ فيصل ضرورة قدومه بسرعة و قبل السادس عشر من أيلول ، لحضور جلسات الاتفاق بين البريطانيين و الفرنسيين حول سوريا، فعلا سافر فيصل مرة أخرى إلى مرسيليا بالبحر على متن سفينة حربية بريطانية ، لكن السفينة أخذت تتباطأ ، ورست في مالطا بحجة الإصلاح ، و أقام حاكم مالطا برنامجا حافلا لفيصل قصد تأخيره ، عندما وصل أخيرا إلى مرسيليا أدرك ان الأمر قد انتهى ، وكان الاتفاق قد تم توقيعه ، ندما وصل إلى لندن لم يجد أمامه إلا الاستقبالات الفخمة المليئة بالبذخ والترف و الحفلات المقامة على شرفه .

أفهم الإنكليز فيصل ان علاقته من الآن باتت مع الفرنسيين، وأنهم سيتوقفون عن دفع نفقات الحكومة العربية البالغة مائة و خمسون ألف جنيه ذهبي شهريا، وان قواتهم ستنسحب في نهاية عام 1919 باتجاه العراق والأردن و فلسطين ، من دمشق وحمص و حماه و حلب ، وستدخل القوات الفرنسية بدلا عنها .

صدرت الصحف الفرنسية لتقول : يجب ان تنتهي مهزلة فيصل ، فمن هو فيصل بالنسبة للفرنسيين او السوريين ، هو رجل من قش، صنعته بريطانيا ، فإذا أرادت ان تعطيه مملكة فلتنصبه ملكا في بغداد .

عندما وصلت الأخبار إلى السوريين زاد الهياج العام ، وتنادى الناس إلى حمل السلاح، و نادى آخرون بالاتصال بالقائد التركي مصطفى كمال الذي استطاع صد الحلفاء عن وطنه تركيا لطلب المعونة .

نشبت الثورات الوطنية المدعومة سراً من فيصل ، كثورة الشيخ صالح العلي في الساحل ضد القوات الفرنسية ، و قامت ثورة صبحي بركات في إنطاكية ، الذي استطاع الفرنسيون فيما بعد استمالته إليهم بعدما وعدوه بالمناصب و سلموه لاحقا رئاسة اتحاد الدول السورية ، وقامت ثورة إبراهيم هنانو في جبل الزاوية التي مدها الأتراك بالرجال و العتاد، وتعاونت مع ثورة صالح العلي، كما ثار الدنادشة في منطقة تلكلخ ، و ثار غيرهم من الثوار الكثير .

حاول قائد الجيش ياسين الهاشمي وهو ضابط عثماني سابق من بغداد، تسليح رجاله ، وأعلنت الحكومة التجنيد الإجباري، وبلغ تعداد الجيش العربي حوالي خمسة عشر ألف جندياً ، ولكن تسليحهم كان رديئا، و كانوا أشبه بجنود درك و ليسوا بجنود جيش .

قام الإنكليز ردا على إعلان التجنيد العام ، بالقبض على ياسين الهاشمي قائد الجيش العربي ، فرفعت اللافتات في الشوارع تقول لفيصل : ( أين قائد جيشك يا أمير ) ، ولم يستطع فيصل فعل شيء، فعمت الإضرابات و قامت المظاهرات .

تحرك الأمير رمضان شلاش وهو شيخ عشيرة البوسرايا في منطقة دير الزور ، و كان ضابطا في الجيش العثماني ، فقبض على الحامية الانكليزية ، وأعلن الثورة ، فما كان من فيصل إلا ان تدخل و طلب من شلاش إطلاق الجنود الإنكليز، وموافاته في دمشق .

انسحبت القوات البريطانية من الداخل السوري في الشهر الحادي عشر من عام 1919 ، بعد تواجد دام حوالي العام كان للإنكليز خلاله اليد الطولى في حكم البلاد بشكل مباشر، وتعيين الحكام العسكريين وفرض إرادتهم، وكانت سلطة الملك فيصل صورية لا قيمة لها .

بعدما خدع البريطانيون فيصل، ومن قبله والده الشريف حسين ، المرة بعد المرة ، فكانوا ينظمون له الاستقبالات الفخمة و ينفقون عليه الأموال الطائلة ، و يقسمون سورية من وراء ظهره .

يبدو ان الامير فيصل الذي نصب ملكا لفترة قصيرة بعدها على سوريا، كان يسعى منذ البداية إلى كرسي الملك ، متجاهلا المصالح الوطنية ، فقد غادر سوريا فورا ، صيف عام 1920 وبعد عشرين شهرا من دخولها مع قواته، وذلك عندما دخلها المحتلون الفرنسيون، لينصبه الإنكليز لاحقا ملكا على العراق.

المراجع :

  • تاريخ سورية 1918-1920: الدكتور علي سلطان مدرس التاريخ الحديث في جامعة بروفانس بفرنسا ،طبعة عام 1987.
  • تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي : أدهم آل جندي ، طبعة عام 1960
  • مقررات حكومة سوريا : يوسف صادر ،طبعة عام 1933
  • كفاح الشعب العربي السوري : إحسان الهندي طبعة عام 1962
  • المذكرات : محمد كرد علي .
  • أعمدة الحكمة السبعة : ت . أ. لورنس .
  • شعاع قبل الفجر مذكرات احمد السياف : تحقيق جمال باروت .
  • حلب في مائة عام : فؤاد عنتابي و نجوى عثمان .
شارك الموضوع مع اصدقائك !!
لمتابعة أحدث منشورات دار الوثائق الرقمية التاريخية على شبكات التواصل الاجتماعي :

مواضيع اخرى ضمن  مدونة المحامي علاء السيد

02-10-2022 3983 مشاهدة
حقيقة قصة السلطان عبد الحميد مع اليهودي قراصوه التي لا أساس لها

عندما بدأت الحملة الممنهجة لتبييض صورة السلطان عبد الحميد عمدت بعض الكتابات العربية للترويج لقصة اليهود الدونمة ومحاولتهم شراء أجزاء من فلسطين ورفض السلطان عبد الحميد لذلك بطريقة بطولية مما دعا هؤلاء لخلعه  المزيد

02-10-2022 3278 مشاهدة
السلطان عبد الحميد والرقابة على الصحف وتقييد الحريات

جاء في الفصل الأول المعنون : الشخصية الحميدية  من كتاب "أوهام الذات المقدسة السلطان عبد الحميد لمؤلفه المحامي علاء السيد وذلك تحت تحت عنوان : رقابة المطبوعات الحيوية  المزيد

13-08-2022 4186 مشاهدة
مصادر ومراجع كتاب "أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" لمؤلفه المحامي علاء السيد

اعتمد كتاب"أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" على حوالى 78 مصدرا ومرجعا و على ما نشر في حوالى 17 جريدة ومجلة من أخبار ومقالات متعلقة بما ورد في الكتاب  المزيد

13-08-2022 3680 مشاهدة
الفهرس الكامل لكتاب "أوهام الذات المقدسة، السلطان عبد الحميد الثاني" لمؤلفه المحامي علاء السيد

الفهرس  6 , مقدمة  9 , تمهيد  11 , الفصل الأول: الشخصية الحميدية  29 , طفولة سلطان  31 , شروط مدحت  33  المزيد

13-08-2022 3193 مشاهدة
السلطان عبد الحميد وحقيقة رفضه بيع فلسطين لهرتزل زعيم الصهاينة وعرضه حلب بديلا عنها

أفرد كتاب "الذات المقدسة ، السلطان عبد الحميد الثاني" فصلاً كاملاً بعنوان : "السلطان عبد الحميد وقضية فلسطين" في 56 صفحة فيها 116 اشارة توثيقية مرجعية  المزيد

13-08-2022 3922 مشاهدة
أراء المؤرخين بشخصية السلطان عبد الحميد الثاني .المحامي علاء السيد

لإيفاء دراسة شخصية عبد الحميد حقها، يجب أن نعي تماماً أن هذه الشخصية تطورت وتعقدت خلال ما يزيد عن ثلاثة وثلاثين عاماً من الحكم،  المزيد

13-08-2022 2258 مشاهدة
تعاون السلطان عبد الحميد مع اليهود لاستيطان مدينة القدس. المحامي علاء السيد

إن الاستيطان اليهودي في فلسطين زمن الدولة العثمانية حتى نهاية عهد السلطان عبد الحميد وقبل عهد " الاتحاد والترقي" بُني على طريقتين  المزيد

02-08-2022 2856 مشاهدة
مقالة نقد كتاب أوهام الذات المقدسة بعنوان : السلطان عبدالحميد الثاني، بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي

مقالة نقد كتاب أوهام الذات المقدسة بعنوان : السلطان عبدالحميد الثاني، بين الكتابة الصحافية وغياب منهجية البحث العلمي. والرد على المقال .  المزيد

أكثر الكتب مشاهدة

مكتبة الفيديو