كانت من عادة الحلبيين الإقامة في الصيف في الكروم والبساتين القريبة المحيطة بمدينة حلب، وأهمها تلك الكروم التي كانت على ضفاف نهر قويق غرب المدينة والمزروعة عادة بالأاشجار المثمرة والخضار الصيفية والبقوليات، بينما كانت كروم الفستق الحلبي تقع شرق المدينة لعدم حاجتها للسقاية، وكانوا يبنون بيتاً ريفياً صغيراً فيه الفنون المعمارية الحلبية بشكل مبسط نسبياً واجهته من الحجر الحلبي الأصفر المدقوق يدويا بالشاحوطة لتزيينه وتبنى خلفية المبنى من حجر "اللبن" الاقل تكلفة.
على الواجهة تكون القناطر و الأعمدة ذات التيجان الجميلة المحاطة بأساور النحاس، وتكون نوافذ البيت مقنطرة بالقوس الحلبي المعماري الشبيه بالقوس الفارسي المدبب، ويحاط البيت الصغير بالهياكل الخشبية الشبيهة بطراز الأكشاك الحلبية ليعطي جمالية للمكان ولتتسلق عليه العرائش وخاصة كرمة العنب السبيعي. ويزرع إلى جانب البيت شجرة الجوز وشجرة التوت الحلبي الأبيض عادة لتلقي بظلالها على ساحة الدار الريفية.
كرم البقعة من أشهر الكروم التاريخية بحلب، أُطلق عليه هذا الاسم لوقوعه أمام موقع مشهد الحسين عليه السلام، حيث وجد سيف الدولة الحمداني بقعة الدم على صخرة في الجبل بعد رؤية جاءته في المنام شاهد فيها الموقع الذي وضُع فيه رأس الحسين الشريف أثناء رحلته الطويلة إلى دمشق، وتساقطت منه قطرات لم تفنى من دمه الشريف حسب المعتقد الحلبي القديم، أطلق على هذا البستان من حينها اسم كرم البقعة الذي اشتهر بزراعة الفول في أراضيه المسقية وكان فول كرم البقعة مضرب مثل لدى أهالي حلب. وإلى جانبه كان بستان أسد الله الشوربه جي من الانكشارية الحلبية وهو جد خير الدين الأسدي.
عندما حكم نور الدين الزنكي حلب قام بضم الكرم إلى أملاكه ليؤول بعد وفاته -بمرض غامض بعد صراعه مع صلاح الدين الأيوبي - لزوجته أم اسماعيل قبل حوالي ثمانمائة عام، التي أوقفت وخصصت لاحقاً ريع الكرم وغلته للانفاق على خانقاه خيري بنته أمام قلعة حلب ودفنت بجانبه ابنها الشاب ملك حلب اسماعيل بن نور الدين الزنكي والملقب الملك الصالح الذي توفي بحلب عام 1181م في ظروف غامضة بعدما عجز صلاح الدين الأيوبي عن هزيمته خلال حصاره حلب لالتفاف الحلبيين حوله ومحبتهم له ولوالده من قبله، ليدخل صلاح الدين حلب بعد وفاته الغامضة فاتحاً.
بقي هذا الكرم سكناً لمصطفى جمال بك الجمالي ناظر الوقف وكان آل الجمالي ناظري وقف زاوية بابا بيرم الشهير ذو الطريقة القلندرية الصوفية، وبقي الكرم وقفا خيريا حتى تحول لملك خاص مطلع القرن العشرين مع حركة استبدال الأراضي الوقفية والتي أخفت عمليات بيع هذه الأوقاف تحت ستار شرعي، واشتهرت منها عمليات بيع وقف عثمان باشا يكن باني جامع العثمانية، هذه الأوقاف التي لا يجوز بيعها شرعاً باعتبارها موقوفة ( اعتاد الحلبيون استعمال تعبير -بنت متل بيت الوقف لا بتنباع ولا بتنشرى- في اشارة للتي تبقى عزباء لممانعة أهلها تزويجها خوفا عليها من الارتباط بمن لا يناسبها ).
في مطلع القرن العشرين قام المرحوم الحاج محمد أبو شالة وهو من مواليد حي الجلوم عام 1869م وكان تاجر مشهوراً ببيع الغلات الريفية التي يشتريها من منتجيها الفلاحين من حبوب وسمن وأجبان وغيرها من منتجات، وُيطلق على مهنته لقب الخانجي في إشارة للخانات التي تتم فيها هذه التجارة، وكان خان أبو شالة قرب باب إنطاكيا
قام هذا الرجل الحاج أبو شالة بشراء هذا البستان الجميل الذي حمل اسم كرم البقعة، ثم باعه في الربع الأول من القرن العشرين بعدما اشتهرت استضافته الكريمة لمن يرغب بإمضاء يوم "سيبانة" في بساتين حلب- سيبانة هو التعبير الذي يستعمله الحلبيون كمرادف لنعبير سيرانة الدمشقي - فتقاطرت على الكرم الأخضر العوائل الحلبية باستضافة الحاج محمد ابو شالة ذو السمعة العطرة والتدين والتقى السمح - كعادة المتدينين الحلبيين الصوفيين قديما، البعيدين تماماً عن الأفكار العقائدية السياسية التي راجت تلك الفترة سواء منها اليمينة أو اليسارية - والذي أمضى الهزيع الأخير من حياته حتى وفاته في سنة 1962م عن 93 عاماً مداوماً في جامع سيدنا زكريا الذي اشتهر لاحقاً باسم الجامع الأموي الكبير.
وذلك بعدما وضعت سلطات الانتداب الفرنسي يدها على هذه الخانات وحولتها لمنطقة عسكرية محيطة بسجن خان استانبول الشهير الذي روعت فيه معارضيها ممن اصطلح الحلبيون على تسميتهم "الوطنيين". وهم الأعداء السياسيين للفئة الأخرى من سياسيي حلب الذين اصطلح الحلبيون على تسميتهم "المعتدلين " وكان لهم أتباع كثر لا يقلو عن أتباع " الوطنيين ". وتم تلقيبهم بالعملاء لفرنسا لاحقاً.
بعدما باع الحاج أبو شالة الكرم وترك العمل بالخانات و داوم معظم يومه متصوفاً في الجامع الكبير حتى وفاته، تم استملاك الكرم من قبل بلدية حلب ولاحقاً تم تحويله لحديقة الشهباء الحالية التي تمتد ما بين حيي الزبدية وبستان القصر ويخترقها مجرى نهر قويق.
الحاج محمد أبو شالة مالك كرم البقعة
حديقة الشهباء وهي الموقع الحالي لكرم البقعة
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
بوفاة صباح فخري، رحل آخر الرموز الحية للـ "الإسلام الحلبي". على الأرجح أن هذا المصطلح لم يُستخدم بعد، خاصة مع رواج مصطلح "الإسلام الشامي" الذي يشير إلى التدين المنفتح المعتدل في بلاد الشام المزيد
يروي لنا الفنان التشكيلي الحلبي يوسف عقيل ذكريات طقوس الذهاب مع والدته الى حمام السوق في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين. المزيد
أسس الطريقة المولوية ابن جلال الدين الرومي وهو سلطان ولد المتوفي عام 1312 م في مدينة قونية ويلقب أحفاد جلال الدين بلقب "جلبي" بينما يلقب شيوخ المولوية بلقب "داده". اختارت هذه الطريقة موسيقى الناي ورقص السماح طريقاً المزيد
في عام 1860م أسس مجلس الوكلاء الأميركي للإرساليات الأجنبية وهو على المذهب المسيحي البروتستانتي في بلدة عنتاب التي كانت تابعة لولاية حلب مدرسة دينية مشيخية للبنات المزيد
سألت حارس الغار صديقي يوسف عقيل: هل الفن والجمال يتجلى في النحت والرسم فقط؟ قال: أم الفنون وخلاصتها "العمارة"، في العمارة يجتمع النحت والرسم والموسيقا، لتشكيل وحدة متناغمة من الجمال الثلاثي الأبعاد. المزيد
في صيف عام 1822م ضرب حلب الزلزال الكبير الذي دمر قسما كبيرا من عمران المدينة، وقتل عدد أكبر من سكانها ، وقع الزلزال في مساء يوم 28 ذي القعدة 1237 هجري تعادل 16 آب عام 1822ميلادي المزيد
بعد شتاء طويل وقبل دخول الصيف وتحرير حلب القديمة توفيت السيدة جيني بوخة مراش حفيدة جوزيف بوخه ، وهو التاجر النمساوي الذي وصل وسكن في حلب في الربع الأول من القرن التاسع عشر عام 1820م المزيد
بعد أن فهمت القليل عن جوهر فن النحت كفن مظهر لوجدانية الجمال في "وجدان1 "، عدت لفناننا الكبير يوسف عقيل - وهو حارس من حراس الغار- وسألته : ماذا عن تمثال سعد الله الجابري ؟ المزيد